لا يمكن أن تنهض أمةٌ تستهلك ولا تُنتج، ولا تستطيع دولة أن تتقدم وهي لا تبحث ولا تبتكر. فالنهضة ليست قرارًا سياسيًا فحسب، بل منظومة علمية واقتصادية تبدأ من العقل الباحث وتنتهي عند المنتج الوطني. ومصر- بما تمتلكه من طاقات بشرية ومراكز بحثية- تقف اليوم على مفترق طرق، فإما أن تربط البحث العلمي بالاقتصاد الوطني ربطًا عضويًا حقيقيًا، وإما أن تبقى حبيسة التوصيات والأوراق واللجان التي لا تتجاوز حدود المؤتمرات والندوات.
ورغم وجود مئات المراكز والمعاهد البحثية المتخصصة، إلا أن الواقع يكشف عن فجوة واضحة بين المعمل والمصنع، وبين الأفكار العلمية . فكم من أبحاث حبيسة الأدراج لم تجد طريقها إلى التطبيق، بسبب غياب منظومة التمويل التطبيقي، وضعف التواصل بين الباحثين والقطاع الصناعي، وتراكم البيروقراطية التي تُخمد الحماس وتُطفئ جذوة الإبداع. نحن نملك العلماء، لكننا ما زلنا نفتقر إلى الارادة التي تُحوّل البحث العلمي إلى قوة إنتاج حقيقية ومورد قومي لا ينضب.
إن المأمول اليوم أن يتحول البحث العلمي من نشاطٍ أكاديمي محدود إلى قوة اقتصادية فاعلة، وأن يصبح المعمل شريكًا للمصنع، والمركز البحثي جزءًا من منظومة الإنتاج الوطني. فالمطلوب ليس مزيدًا من الأبحاث النظرية، بل توجيه الجهد نحو ما تحتاجه الدولة فعلًا في مجالات الطاقة والزراعة والصناعة، مع تحفيز الباحثين عبر نظم تمويل مرنة ومكافآت للإبداع التطبيقي، وتحويل براءات الاختراع إلى منتجات وطنية عبر حاضنات تكنولوجية حقيقية، وتفعيل دور المعاهد القومية كمراكز تفكير استراتيجي تضع حلولًا واقعية لمشكلات الاقتصاد المصري.
ويأتي قطاع البترول نموذجًا واضحًا على أهمية هذا التحول. فالبترول لم يعد مجرد موردٍ يُستخرج ويُباع، بل أصبح ميدانًا متجددًا للبحث والتطوير. فحين نهتم بالأبحاث الخاصة باستخدام الهيدروجين الأخضر، والوقود منخفض الانبعاثات، وتطوير الإضافات البترولية والمركبات الكيماوية المحلية، فإننا نحول كل قطرة خام إلى قيمة مضافة جديدة.
ومن هنا تأتي أهمية إنشاء المنصات البحثية المتكاملة التي تجمع معهد بحوث البترول وهيئة البترول وشركات القطاع العام والخاص في منظومة واحدة لتطبيق نتائج الأبحاث على أرض الواقع.
أما الصناعة، فهي الامتحان الحقيقي للبحث العلمي. فحين يصبح المعمل شريك المصنع، تنخفض كلفة الإنتاج وتزداد القدرة التنافسية. الصناعة الحديثة لا تقوم على اليد العاملة فقط، بل على العقل الباحث الذي يبتكر مواد جديدة ومحفزات كيميائية وأنظمة تحكم ذكية ترفع كفاءة الطاقة وتحسن جودة المنتج. إن الصناعة المصرية لن تتقدم إلا حين تتشكل شبكة بحثية وطنية ترتبط بالمصانع وتقدم لها حلولًا فورية مبنية على العلم والخبرة والابتكار.
وفي الزراعة، لا يمكن لأي أمة أن تضمن أمنها الغذائي وهي تعتمد على الحظ والمطر. الزراعة الحديثة تقوم على العلم الدقيق لا على التجربة، ولهذا فإن دعم البحث العلمي الزراعي أصبح أولوية وطنية. نحن بحاجة إلى بذور مصرية مقاومة للجفاف والملوحة، وأسمدة عضوية متطورة تقلل التلوث وتحافظ على خصوبة الأرض، وأنظمة ري ذكية توفر المياه وتزيد الإنتاج. فالعقل الزراعي الباحث هو الذي يحمي فدان الوطن، ويضمن الاكتفاء الذاتي، ويحول الصحراء إلى خُضرة.
إن الواقع يؤكد أننا نمتلك البنية العلمية، لكن المأمول أن نمتلك المنظومة التي تُحوّل الأفكار إلى مشروعات، والمشروعات إلى صناعات، والصناعات إلى صادرات. والمطلوب أن يتحول الباحث إلى جنديٍ في معركة التنمية، وأن تصبح المعامل خطوط إنتاج وطنية لا مجرد مؤسسات أكاديمية منعزلة. والدولة المصرية بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي تدرك هذا جيدًا، فبدأت بإعادة ربط العلم بالتنمية من خلال دعم المشروعات البحثية التطبيقية، وتشجيع الروابط الوطنية التي تجمع بين العلماء والصناعة والزراعة والطاقة.
النهضة الحقيقية لا تُستورد، بل تُصنع بالعقول. والبحث العلمي ليس رفاهية أكاديمية، بل أداة سيادة وطنية. وحين نصل إلى اليوم الذي تصبح فيه نتائج الأبحاث بندًا ثابتًا في موازنة الدولة مثل الرواتب والدعم، سنكون قد انتقلنا من مرحلة الكلام إلى مرحلة البناء. وبين الواقع والمأمول، يقف الباحث المصري شامخًا بالعزيمة، منتظرًا فقط أن تُفتح له الأبواب ليكتب بالعلم مستقبل وطنه، فبالعقول تبنى الأمم، وبالعلم تُصان السيادة، وبالبحث تُصنع النهضة.
حفظ الله مصر قيادةً وشعباً.









