من ركائز التعامل الإنساني ثقافة الاعتذار.. والاعتذار فى جوهره ليس ضعفًا كما يظنه البعض بل هو قوة وشجاعة أخلاقية فهو يعكس وعى الإنسان بخطئه واحترامه للآخر ويدل على تربية راقية وشخصية متصالحة مع ذاتها غير أن كثيرين اليوم يهربون من الاعتذار خوفًا من كسر الصورة أو فقدان الهيبة فيتخذون من الصمت أو التبرير طريقًا للهروب من المسئولية وكأن الاعتذار إهانة لا فضيلة.
ويشير علماء الاجتماع إلى أن تراجع ثقافة الاعتذار يرتبط بتزايد النزعة الفردية فى المجتمعات الحديثة حيث أصبح كل فرد يرى نفسه على حق دائمًا ويرفض الاعتراف بخطئه كما تلعب وسائل التواصل الاجتماعى دورًا فى ترسيخ هذا السلوك إذ يسعى كثيرون لتجميل صورتهم أمام الآخرين بدل مواجهة أخطائهم بصدق.
ومع ذلك تبقى القدرة على الاعتذار إحدى علامات النضج الإنسانى فالشخص الذى يعتذر لا يخسر احترامه بل يكسب ثقة من حوله لأنه يثبت أنه مسؤول عن أفعاله والاعتذار لا يقتصر على العلاقات الشخصية فقط بل يشمل العمل والإعلام وحتى المؤسسات الرسمية التى ينبغى أن تعترف بأخطائها بشجاعة لتصحيح المسار.
إننا بحاجة إلى إحياء ثقافة الاعتذار فى مجتمعنا بدءًا من الأسرة والمدرسة حتى تصبح عادة يومية وسلوكًا تربويًا فحين يتعلم الطفل أن يقول آسف عندما يخطئ سيكبر وهو يدرك أن الخطأ ليس نهاية الطريق بل بداية للتصحيح
فى النهاية لن تنهض المجتمعات ما لم تتصالح مع نفسها ولن يحدث ذلك إلا حين يدرك كل فرد أن الاعتذار لا ينقص من كرامته بل يرفع قدره ويطهر قلبه فالكلمة الطيبة لا تكلف شيئًا لكنها قادرة على أن تعيد جسورًا هدمها الكبرياء.
وعلى الجانب الآخر فإن هناك ظاهرة سلبية تواجه البعض الذين يخشون الإخفاق وكأنه وصمة عار تلاحقهم، بينما هو فى الحقيقة أحد أهم أبواب التعلم والخبرة فالتجربة التى لا تنجح لا تعنى النهاية، بل تمثل خطوة فى طريق الفهم والنضج واكتساب المهارة. إنّ الإخفاق ليس ضد النجاح، بل هو جزء من رحلته ومن دونه لا يمكن للإنسان أن يتطور أو يبدع.
لو لم يجرؤ المبدعون على المحاولة بعد كل تجربة إخفاق لما عرف العالم شيئًا عن الكهرباء أو الطيران أو الإنترنت. فالإخفاق فى بعض الأحيان هو الشرارة الأولى للإبداع، لأن لحظة الإخفاق تدفع العقول إلى التفكير خارج المألوف والبحث عن حلول جديدة. من رحم الخطأ يولد الاكتشاف، ومن عثرات الطريق تُبنى قصص النجاح.
إنّ المجتمعات التى تنظر إلى الإخفاق كجريمة تُطفئ جذوة الإبداع فى أبنائها، بينما المجتمعات المتقدمة تعتبر الإخفاق تجربة تعليمية ضرورية. فالمدارس والجامعات فى الدول المتقدمة تشجع الطلبة على التجربة والخطأ، لأنهم يدركون أن الابتكار لا يولد من الخوف، بل من المحاولة المستمرة.
ومن المهم أن نتعلم نحن أيضًا أن نتعامل مع الإخفاق بعقلية إيجابية، فنراجع الأسباب ونتعلم منها دون جلد للذات أو استسلام. فالناجح الحقيقى ليس من لم يسقط، بل من يسقط ويقف من جديد أكثر وعيًا وصلابة.
إن الإخفاق لا يقلل من قيمة الإنسان، بل يكشف عن طاقته وقدرته على التحدى. هو معلم صادق، لكنه قاسٍ، يمنح دروسه لمن يملك الشجاعة للاستفادة منها. لذلك علينا أن نُغيّر نظرتنا إليه، فالتجربة التى لا تنجح اليوم قد تكون بذرة لنجاح عظيم غدًا. فكم من إخفاقٍ أنار طريق البشرية، وكم من سقوطٍ كان بداية لصعودٍ أكبر وأجمل.









