فى مصر لا تمر لحظات الفرح كما تمر فى مكان آخر، نحن شعب عجيب، يحب الفرح لكنه يحترم الأحزان، يستقبل الفرحة بسعادة بالغة لكنه يحجز مقعدا دائما للحزن حتى فى لحظات الفرح، المصريون يحبون الحياة لكنهم يقدسون الموت، فى قاعات الأفراح ومن باب خلفى يتسلل الحزن ممتطياً حصاناً أبيض فى مشهد يعكس حالة تناقض مزعجة لمن لا يفهم طبيعة وسلوكيات هذه الأمة فيختلط الحزن بالفرح.
> > >
تتحول الضحكات الصارخة إلى ابتسامات باهتة وفجأة تتساقط الدموع من عيون الفرحين، فنقول جميعاً إنها «دموع الفرح» وهى فى الحقيقة ليست كذلك، إنها دموع الحزن الدفين الذى يتم استدعاؤه فى لحظات الفرح كسلوك مصرى حصري، فتسمع عبارات «اللهم اجعله خير» و»خير يارب» و»ربنا يستر» و» اللهم لا حسد» كلما اشتدت لحظات الفرح وعلت الضحكات، المصريون يختارون أيام أعيادهم لزيارة موتاهم فى قبورهم.
> > >
فى لحظات السعادة والفرح يتذكر كل منا كل لحظات التعب والشقاء والمعاناة التى مرت به فى حياته، نتذكر من فقدناهم من أحبابنا وأعزائنا خاصة فى اللحظات التى نصل فيها لقمة الفرحة، مفهوم أننا كنا نتمنى لو شاركنا هؤلاء الذين فقدناهم وافتقدنا وجودهم حولنا خاصة فى لحظات أفراحنا، وربما لدينا رصيد طويل من الخبرة الممزوجة بالحكمة والتى تنبهنا دائماً إلى أن الفرح لا يكتمل إلا بشيء من الألم، لذلك نجد الحذر هو عنوان أفراحنا وتفاؤلنا دائماً.
> > >
المصريون بناؤون بطبيعتهم، تاريخنا وحضارتنا تاريخ من البنيان وحضارتنا حضارة بنيان، لكن المثير أن أضخم وأعلى وأعظم مبانينا هى المقابر، نبدأ فى تصميمها وإنشائها والاعتناء بها، الأهرامات ما هى إلا مقابر تحفظ فى باطنها ودهاليزها من شيدوها ليوم الخلود، هذه الطبيعة الموروثة مرتبطة بحب الاستقرار الذى يسير فى عروق المصريين كما يسير الدم بلا توقف.
> > >
المصريون شعب يحب الاستقرار على أرضه يزرعها ويرعاها ويحميها ويثور وينتفض إذا اقترب منها أو هددها معتد، لقد كان الفيضان يفيض فى أوقاته وكان المصريون يحتاجون إلى سلطة تنظم توزيع المياه على الحياض بالعدل والتساوي، فكانت حاجتهم الماسة إلى حكومة فجاءت فكرة الحكومة، وعندما تنشأ خلافات تكون الحاجة إلى من يفصل فى الخلاف ويحكم بالعدل فكان القضاء المصري.
> > >
وكان المصرى القديم يغرس غرسه ويلقى بالحبوب فى الأرض بعد تجهيزها ويأتى الفيضان فيحيى هذه الأرض فتنبت من خيرات الله، وبين الغرس والحصاد يستمر المصرى يعمل بجد ويرفع أكف الضراعة إلى السماء طالباً المدد الإلهى والتوفيق الرباني، من هنا تشكلت فكرة الدين والتوحيد والربوبية والعبودية العقلية والروحانية، إن المصرى القديم هو الذى اخترع فكرة الحكومة والقضاء ووصل إلى حقيقة التوحيد دون وسطاء وقبل الأنبياء.
> > >
اليوم كثرت أفراحنا وتعددت إنجازاتنا، لكننا نفرح بحذر ونقول دوما «اللهم أجعله خير».









