هى مصر فى كل عصر.. تستطيع أن تجمع العالم من حولها فى كل وقت وكل حين.. ومن كتبوا أن حفل افتتاح المتحف الكبير كان غربياً أكثر منه شرقياً، يمثلنا.. أردت أن أعود بهم إلى 16 نوفمبر 1869 وقت افتتاح قناة السويس لأول مرة فى عهد الخديو اسماعيل، وأراد أن يحتفل العالم كله بهذا الحدث العظيم ويسوق له بين الدول، وكان التفكير فى عمل فنى يحكى عن أجواء مصرية ووقع الاختيار على أوبرا عايدة للمؤلف الموسيقى فيردى، حيث أحب الجندى الفرعونى رادميس أسيرة الحرب الاثيوبية »عايدة«، وتم تكليف الإيطالى ريجوليتو بهذا العمل، الذى شهده العديد من ملوك وأمراء وعلماء وأدباء من جميع أنحاء العالم فى حفل وصف بأنه خرافى من حواديت ألف ليلة وليلة، وخرجت المدرعات الحربية تحرس سفينة المحروسة وعليها كبار الضيوف ومعهم اسماعيل.
الحقيقة، أن أوبرا عايدة لم تكتمل كما كتبها ماريابيان مقتبسها من قصة كتبها فيكتور هوجو فى مسرحية، وقد تأخر إعداد ملابس العمل وتم استبدالها بقصة صاغها موسيقياً فيردى بعنوان «عايدة» فى أجواء فرعونية، لأن عايدة أخفت هويتها كأميرة حتى ان رادميس الذى أحبها ولكنه عندما علم لم يتغير قلبه من ناحيتها، لكن الكهنة كان لهم رأى مختلف، وانتصر الحب فى النهاية وماتت عايدة بين ذراعى رادميس وهو يصلى، والفارق أن الخديو اسماعيل أرهق خزانة الدولة واستدان من الانجليز وكان ذلك مبرراً لاحتلالهم للبلاد، لكن القيادة المصرية الآن لم تحمل موازنة الدولة جنيهًا واحدًا بل قدمت منجزًا يضييف للخزانة العام وفى الحفل اعتمدت على تمويل ذاتى للحفل من رجال الأعمال، إلى جانب منحة يابانية.. ومع ذلك ننظر إلى حفل قناة السويس الأول كحدث تاريخى عالمى على أرض مصر، تكرر بعد ذلك عند الافتتاح الثانى لقناة السويس فى عهد الرئيس السيسى، وبأموال الشعب المصرى الذى تسابق على البنوك لتمويل المشروع، حتى قالت لهم شكراً ما جمعناه يكفى، وبذلك تحول المشروع إلى رسالة كبرى أمام العالم كله، إلى جانب الاحتفال الذى أقيم واختلف بالطبع عن حفل المتحف، لأن مصر هنا تقول للدنيا نعم هذا تراثنا، لكنه متاح للإنسانية كلها كأفراد، بعكس القناة التى تهم الشركات البحرية والدول فقط.
هنا توتو ونفرتيتى
فى حضور جنسيات مختلفة على أعلى مستوى، لابد أن تعرف كيف تتحدث عن نفسك بلغة يفهمونها.. فيحدث التجاوب والانسجام وانظروا إلى الأوركسترا بملابسه البيضاء الفخمة والوجوه المتنوعة التى تعزف كلها فى لحن واحد مكتوب أمامها، وفى ذلك رسالة تقول: مهما اختلفنا فى الجنسيات والثقافات والمعتقدات، هناك ما يجمعنا إنسانياً.. وتلك هى الفلسفة التى تعمل عليها منظمة الآن «اليونسكو».. ومن حسن الطالع، أن يأتى الحفل وعلى رأس المنظمة شخصية مصرية لأول مرة بعد أشواط انتخابية سابقة لم نستطع من خلالها أن نخترق التربيطات والحسابات السياسية التى تحكم هذا المنصب الثقافى الرفيع.. لكن خالد العنانى نجح فى أن يحقق هذا الفوز الذى تزامن مع افتتاح المتحف.. وأظن أن الدور الذى لعبه فى فترة إعداد وتجهيز المتحف كوزير للآثار والسياحة ساعده فى الفوز، مع أن صاحب فكرة المتحف الوزير فاروق حسنى له حضوره كفنان تشكيلى تواجد فى أوروبا طويلاً وهو يدير أكاديمية روما، وقد ظهر فى مستهل الحفل وهذه رسالة أخرى عن معنى الوفاء، إلى جانب حضور طبيب القلوب العالمى مجدى يعقوب وخالد العنانى مدير اليونسكو.
الحقيقة، أن الفن المصرى الشعبى لم يغب عن الحفل فى شكل ابتهالات كنسية وتواشيح، وكان لحن سيد درويش الخالد «أنا المصرى» خير بداية بتوزيع جديد لقائد أوركسترا الحفل ناير ناجى.
جاءت نقلات طاقم الإخراج بين الحدث على الهواء مباشرة أو لقطات مسجلة على الشاشة الضخمة التى تربط بين مصر والعالم بشكل ذكى، والهدف من الحفل الترويج لمصر وحتى يغطى المتحف النفقات التى تم صرفها لكى يخرج بهذا الشكل المبهر الذى جعل كبار الضيوف يقفون احتراماً وتقديراً للحفل والمتحف ولمصر الحضارة من قبل ومن بعد.
يجب أن نعرف أن حفلاً من هذا النوع تشارك فى إخراجه مجموعة أحدهم يختص بالأنوار وألعاب الإضاءة، وآخر للنقل التليفزيونى وذلك لإخراج ما يدور على خشبة المسرح، ونحن أمام عدد كبير من العازفين والكورال والديكورات والملابس، وكل هذه التجهيزات أخذت وقتها وجرى التدريب عليها لفترات طويلة حتى يخرج الحفل بما يليق به.. وطبيعى أن تكون هناك بعض الأخطاء البسيطة والعقل والحكمة يقتضى أن ننظر إلى المشهد كله، وفرحة العالم وشعب مصر داخل البيوت وخارجها رسالة كبرى، وما رأيناه على السوشيال عندما ظهر الكبار والصغار بالملابس الفرعونية.. صورة توضح مدى نجاح هذا الحدث، ليس فقط على الصعيد الرسمى، لكن على المستوى الشعبى.. وأطفالنا حتماً سوف تعيش فى وجدانهم هذه اللحظات وقد ارتبطت بصورهم.. يا أخى حتى رمسيس بجلالة قدره تحول إلى مغنى مهرجانات وهات يارقص.. ألا يبسطك هذا؟، وتنظر إلى اللحظة بعين الفخر والسعادة.. وقد جاءت فى وقت كان العالم قبلها بقليل فى مصر السلام وهذه رسالة أخرى حلقت بها الطائرات فى سماء العرض فوق الأهرامات الشامخة التى كادت ترقص هى الأخرى من الفرحة.
التحية واجبة لطاقم الإخراج مازن المتجول وحامد عرفة وماجد غنيمى.. واعتذارى لمن لم أعرف اسمه.. فقد كانت عيون الإعلام كلها على شيريهان بطلتها المدهشة.. السوبرانو شيرين أحمد، وفاطمة سعيد وياسمينا العبد وأحمد غزى وأحمد مالك وهدى المفتى وسلمى أبوضيف وصوت كريم عبدالعزيز ومنى زكى، وكباتن الرياضة أحمد الجندى وفريدة عثمان وفريال أشرف، والعازفات ميريت حنا ومريم وأميرة أبوزهرة، والمنشد إيهاب يونس.. وأسماء أخرى عديدة.. لهم الشكر وكل صنايعى ونقاش وكهربائى وسائق، حتى عمال الخدمات وطاقم الضيافة والاستقبال.
من حقنا أن نفرح بالإنجاز الكبير.. وليصرخ الصغار وأصحاب القلوب الحاقدة السوداء الخونة كما يريدون.. لأن مصر أكبر من الكل.. واسألوا الدنيا عن أم الدنيا.









