فى عالم سريع التغير، تواجه المؤسسات سؤالاً مصيرياً: هل يبنى القادة الجدد على ما أنجزه من سبقوهم أم يبدأون من الصفر لتتكرر الدائرة من جديد؟ التجربة أثبتت أن السقوط أو فشل المنظمات لا يرتبط فقط بالمنافسة أو نقص الموارد، بل كثيراً ما يعود لغياب رؤية واضحة للتعاقب القيادى داخل المؤسسات. فعلى سبيل المثال انهارت شركة نوكيا العملاقة أمام ثورة الهواتف الذكية بسبب تجاهل قياداتها للمستقبل، بينما صعدت شركة مايكروسوفت إلى الصدارة مع رئيسها التنفيذى “ساتيا ناديلا” الذى استفاد من إنجازات سابقيه وأضاف رؤيته الخاصة لنجاح الشركة.
الفجوة فى خطط تعاقب القيادات الإدارية عالميًا
تشير الإحصاءات إلى فجوة كبيرة فى خطط التعاقب الإدارى عالمياً. فعلى سبيل المثال كشف مجلس الشركات الأمريكية عام 2022 أن 54%من المؤسسات الكبرى ليس لديها خطط مكتوبة لتعاقب قياداتها، كما أن نتائج الاستقصاء التى عرضها عام 2024 أوضحت أيضاً أن 30% من مجالس الإدارات لا تعرف خليفة الرئيس التنفيذى الحالى للشركة.
إن عدم وجود خطط للتعاقب الإدارى مكلف جداً، فوفقاً لما قدرته مجلة هارفرد بيسنيس رفيو عام 2021 بلغ نحو تريليون دولار سنوياً للشركات المدرجة فى مؤشر “ستاندرد آند بورز 1500”.. فى حين وجد أن الشركات التى لديها خطط للتعاقب الإدارى مكتوبة وواضحة استطاعت أن ترفع من عوائد مساهميها بنسبة تترواح من 20%-25%.
كما أوضحت الدراسات التى تمت 2025 أن معدل دوران الرؤساء التنفيذيين فى”ستاندرد آند بورز 500″ بلغ 14.8%، وأن 44% من القادة الجدد جاءوا من خارج المؤسسات. هذه الأرقام والأمثلة تؤكد أن حوكمة التعاقب ليست مجرد إجراء إدارى، بل هى ضمانة حقيقية لاستدامة المؤسسات، والفاصل بين الاستقرار والقشل المؤسسى.
تعاقب القيادات الإدارية من منظور الحوكمة
تعاقب القيادات يشير إلى التخطيط المسبق لإعداد بدائل قادرة على تولى المسؤولية سواء فى الأوقات الطبيعية مثل التقاعد أو فى الأزمات المفاجئة. ومن منظور الحوكمة، القيادة ليست امتيازاً شخصياً بل وظيفة مؤسسية تضبطها قواعد ولوائح واضحة. فالمؤسسات التى تطبق الحوكمة ترى فى التعاقب استثماراً فى المستقبل، حيث يُعد القادة عبر برامج ومسارات منظمة تحت إشراف مجلس الإدارة، ما يضمن انتقالاً سلساً للقيادة، واستمرار الأهداف وتعزيز الثقة. أما المؤسسات التى تفتقر إلى الحوكمة فتجعل التعاقب أزمة يحكمها الولاء والعلاقات الضيقة، فتغرق فى صراعات وارتباك وتظل رهينة لشخص القائد.
ومن ثم فإن الحوكمة هى التى تحدد المساحة المتاحة أمام أنماط القيادة. ففى ظلها يجد “القائد البناء” بيئة تدعمه على استكمال ما اتجزه سابقيه، بينما تكبح “القائد الهدّام” الذى يسعى للبدء من نقطة الصفر ومحو انجازات من سبقه.
لكن إذا ضعفت الحوكمة أصبحت المؤسسة أسيرة لشخصية القائد. فإن كان متوازناً ازدهرت، وإن كان نرجسياً أو سلطوياً غرقت فى الفوضى. كما أن نجاح التعاقب الإدارى يرتبط بطبيعة القائد الجديد: فالبنّاء يتسم بالتواضع والرؤية المستقبلية، والهدّام يهدر الموارد بفرض مصالحه الشخصية.
وتنعكس هذه الأنماط على المؤسسة مباشرة. ففى ظل الحوكمة القوية تتحقق الاستمرارية وترتفع الثقة والإنتاجية، بينما غيابها يقود إلى الارتباك وتراجع السمعة والدافعية.
فى هذا الخضم تلعب أيضاً المستويات الإدارية العليا مثل إدارة المؤسسة الأم أو الشركة القابضة دوراً محورياً فى ضبط التعاقب داخل الوحدات والشركات التابعة. حيث من المفترض أنها تدعم القائد البنّاء وتعزز الاستمرارية، وتراقب القائد الهدّام لمنع إهدار الإنجازات السابقة. أما إذا كانت هى نفسها ضعيفة، فإنها تعجز عن أداء هذا الدور، فتتكرر أزمات التعاقب بما يهدد الهوية المؤسسية ويضعف ثقة جميع المتعاملين مع المؤسسة.
التجربة المصرية فى تعاقب القيادات الإدارية
على المستوى القومى، أولت مصر خلال السنوات الأخيرة اهتماماً خاصاً بحوكمة تعاقب القيادات عبر مبادرات تستهدف بناء كوادر قادرة على قيادة المستقبل. فقد أطلق البرنامج الرئاسى لتأهيل الشباب للقيادة ليعد جيلاً يمتلك المعرفة والمهارات العملية لتولى مواقع قيادية فى مؤسسات الدولة.
كما أنشأت الدولة الأكاديمية الوطنية للتدريب لتقديم برامج متخصصة لإعداد القيادات التنفيذية والإدارية، وربط التدريب بالتطبيق العملى. وإلى جانب ذلك، شاركت مصر فى برامج إقليمية ودولية لتمكين الشباب والمرأة وإدماجهم فى مواقع صنع القرار. وتُعَد هذه الجهود استثماراً استراتيجياً فى رأس المال البشرى وضماناً لوجود صف ثانٍ من القيادات، بما يتماشى مع رؤية مصر 2030 التى تضع التنمية البشرية فى قلب أولوياتها.
حتى يكون التعاقب الإدارى ناجحًا
تنجح المؤسسات حين تقوم ثقافتها على الشفافية والمساءلة والرؤية التراكمية، فيصبح التعاقب الإدارى أداة للنمو، بينما غياب هذه العناصر يجعل المؤسسة رهينة للأشخاص وتتعثر برحيلهم. وهنا يتضح أن الحوكمة الرشيدة تحول التعاقب من عبء إلى فرصة، وتجعله ضمانة للاستقرار.
ولتحقيق ذلك، يجب تبنى سياسات مكتوبة، ورصد القيادات الواعدة وتأهيلها بالتدريب المستمر، واشراف مجالس الإدارات على عملية التعاقب الإدارى، وتجريب القيادات فى مناصب متدرجة، وضمان شفافية انتقال المسؤوليات، مع تقييم دورى لخطط التعاقب الإدارى. والأهم من ذلك بالطبع حماية تراكم الإنجازات بحيث يُلزم كل قائد جديد بالبناء على ما تحقق بدلاً من محوه.
الخلاصة
تتجلى العلاقة بين الحوكمة وتعاقب القيادات فى كونها علاقة عضوية لا تنفصل: فالقيادة ليست امتيازاً فردياً بل وظيفة مؤسسية تضبطها الحوكمة وتكفل استدامتها. ومن ثم، فإن الحوكمة هى الضمانة الأساسية لبقاء المؤسسات، والتعاقب هو الاختبار الذى يكشف مدى قوتها. وهكذا، يظل الفارق بين المؤسسات الناجحة والفاشلة أن الأولى تُدار بالمؤسسات، بينما الثانية تُدار بالأشخاص.









