فى زمن يضطرب فيه العالم بالحروب والانقسامات وتأكل الهوية الثقافية فى أجزاء واسعة من الشرق الأوسط تبرز مصر كمنارة للاستقرار والاستمرارية وكحصن يحمى ما تبقى من ذاكرة الإنسانية التى التهمتها الصراعات فى دول أخري. إنها ليست فقط حارسة كنوزها، بل حارسة فصل أساسى من قصة البشر جميعا.
بينما تحولت مواقع أثرية فى العراق وسوريا إلى أنقاض تحت نيران الحروب أثبتت مصر أن الاستقرار والرؤية والإرادة الوطنية قادرة على حماية ذاكرة الحضارة حتى فى ظل التحديات الاقتصادية والتقلبات الإقليمية.
على مدى آلاف السنين ارتبط اسم مصر بمعنى الحضارة من معابد الكرنك والأقصر إلى أهرامات الجيزة ووادى الملوك كانت هذه المعالم رموزا وطنية وشواهد عالمية على عبقرية الإنسان.
لكن اللافت أن مصر فى القرن الحادى والعشرين لم تكتف بالحفاظ على تراثها بل أعادت إحياءه وقدمته للعالم بصورة أعمق وأكثر حداثة.
فى صميم هذا الانجاز يقف الاستقرار السياسى والأمنى الذى وفر الأرضية لإنجازات ثقافية غير مسبوقة وبينما غرقت دول مجاورة فى فوضى الحروب والنهب وطمس الهوية واصلت مصر باصرار جهودها فى الحفاظ على آثارها واكتشاف المزيد منها.
لقد شكلت رؤية الدولة المصرية والتزام مؤسساتها وعلى رأسها وزارة السياحة والآثار قاعدة لانطلاقة جديدة نحو استعادة مكانة مصر كقلب نابض للتراث الإنساني.
ويأتى المتحف المصرى الكبير على رأس هذه الجهود كأكبر متحف أثرى فى العالم يقف شامخا بجوار هضبة الجيزة فى مشهد يجمع بين عظمة الماضى ورؤية المستقبل.
ورغم الأزمات المالية والأحداث العالمية التى عطلت مسيرته اكتمل هذا المشروع كرسالة واضحة بأن حضارة مصر باقية تتجدد وتلهم.
داخل جدران هذا الصرح العملاق تمت إعادة ترميم وعرض آلاف القطع الأثرية باستخدام أحدث تقنيات الحفظ كثير منها يعرض لأول مرة بعد أن ظل حبيس المخازن لعقود.
كما أصبحت معامل المتحف من بين الأكثر تقدما فى المنطقة ما جعل من مصر مركزا دوليا للبحث وصون التراث.
إلى جانب ذلك تواصلت الاكتشافات الأثرية المذهلة بقيادة بعثات مصرية خالصة فى سقارة والاقصر وأسوان لتؤكد أن العلم والخبرة باتا مصريين بامتياز وأن الإرث الحضارى لا يزال يبوح بأسراره من تحت الرمال.
ورغم ما واجهته البلاد من تحديات اقتصادية فإنها لم تتخل عن الاستثمار فى البحث الاثرى والبنية التحتية السياحية إيمانا بأن تراثها ليس مجرد ثروة اقتصادية بل رسالة إنسانية وأخلاقية.
هذا النموذج المصرى يبرز بوضوح حين نقارنه بالمآسى التى أصابت دولا مثل العراق وسوريا حيث دمرت الموصل وتدمرت تدمراً وسرقت المتاحف وبيعث آثارها فى أسواق الظل.
الفرق هنا ليس فى الحظ بل فى حكمة الدولة وقوة مؤسساتها التى جعلت من حماية التراث أولوية وطنية لا تقل عن حماية الحدود.
إن الدرس الذى تقدمه مصر للعالم هو أن الحضارة لا تزدهر دون أمن ولا يصان التاريخ دون استقرار فحماية الاثار والمخطوطات والمتاحف ليست عملا ثقافيا فحسب بل فعلا سياسيًا وسياديًا يعلن استمرار الدولة واتصال رسالتها عبر العصور.
اليوم ومع افتتاح المتحف المصرى الكبير أمام العالم تبعث مصر رسالة حضارية تقول فيها إن الأمم تحفظ روحها بالحكمة والوحدة والصمود.
فمــن خلال حماية الماضــى تحمــى مصـر المستقبل لا لنفسها فقط بل للإنسانية جمعاء ورغم تغير الزمن وتبدل العصور تبقى مصر كما كانت دائما حارس التاريخ وراعية الحضارة ابدية بخلود أهراماتها التى تراقب الزمن بشموخ واطمئنان.









