«اننى أرى أشياء رائعة» تلك مقولة الأثرى «هوارد كارتر» فى 28 أكتوبر 1922 عند اكتشافه مع المصريين لمقبرة الملك الذهبى «توت عنخ آمون» وكان اسمه «توت عنخ آتون» وحكم مصر لعقد واحد فقط أثمر عن 5,340 أثر فما بالنا بعدد القطع الاثرية التى كان قد تركها لنا أمثال رمسيس الثانى الذى حكم (1279- 1213ق.م) لمدة 66 عاما، وذاك الملك الفاتح تحتمس الثالث (1479- 1425ق.م) وشارك زوجة ابيه الملكة حتشبسوت فى الحكم، وانشا أول امبراطورية فى التاريخ، وغيرهما.
لا شك أن الحضارة هى العنصر الأقوى تأثيرًا والأكثر فاعلية فى نسق مفردات «القوة الناعمة» وربما يصح أن تكون تلك المفردة «الحضارة» نادرة الوجود لدى العديد ممن يملكون معظم عناصر «القوة الناعمة» وهنا يستوجب الحال التفريق بين مفردتين غاية فى الأهمية وهما «الحضارة» و«المدنية» فالحضارة كما يقول علماء الانثربولوجى واللغة والفلاسفة هى فى مختصر تعريفاتها: محصلة العقل والضمير الانسانى بما يضم النسق الأخلاقى ومجموعة القيم وحزمة المباديء التى ترتقى بالانسان من حالة البدائية إلى التطور والارتقاء الانسانى عما دونه من الخلائق، وتأتى ابداعات الانسان من علوم انسانية وتطبيقية وفكر وثقافة وفلسفة هى التعريف الكاشف لمفردة «المدنية» لكن من المهم القول بالتأكيد أن الحضارة من صنع الانسان فى أرض محددة وخلال زمان ممتد أو انتهي، ولا تسرق الحضارة ولا تنتقل من مكانها لآخر، لكن تنتقل المدنية بصورها المختلفة كاملة أو ناقصة، بالترجمة للعلوم والفلسفات والثقافات من أرض لأخري، فتبدو هذه الأرض الجديدة بمجتمعاتها «مدنية» متطورة مظهريا(!) لكن ليس حضاريا، كأن تتقدم مدنيتها فى العمارة أو التكنولوجيا أو الترفيه أو الاقتصاد لكنها لاتزل لا تستطيع ان تملك كُنه الحضارة وجوهرها، كما يقول «روبرت مريسون مكيفر» (1882- 1970) عالم الاجتماع الاسكتلندي، فى مؤلفاته التى يحدد فيها المفاهيم النظرية ويوضحها (المجتمع: دراسةاجتماعية- 1917) و(المجتمع: بناؤه وتغيرات- 1931) ويرى «المدنية» تتعلق بالوسائل والآليات والأدوات، أما «الحضارة» فتتعلق بالغايات، وكذلك تحدث الفيلسوف الألمانى أوزوالد شبنجلر (1880- 1936) عن الحضارة فى كتابه الشهير (انحدار الغرب- 1918).
كما إننا نستطيع القول بوجود الدبلوماسية السياسية وهى الأصل فى التعامل بين الدول، لكن العلاقات الدبلوماسية البينية لا تكاد تخلو من القوة ـ أحيانا ـ فتتصف العلاقة بدبلوماسية القوة، ولا نغفل الجانب الأمنى فتنشأ ما يعرف بدبلوماسية الأمنية، وكلاهما قد مارستهما مصر على سبيل المثال إلى جانب الدبلوماسية السياسية خلال الدور المصرى فى استعادة التهدئة ووقف الحرب على قطاع غزة بدءًا من انعقاد مؤتمر القاهرة فى أكتوبر 2023 وحتى مؤتمر السلام فى اكتوبر 2025 وتخلل تلك الفترة استعراض مصر لقوة جيشها وقدرته القتالية العالية فى الحفاظ على حدود الوطن، وكذلك احترافية مؤسساتها الأمنية الاستخباراتية وامكاناتها فى تحقيق أهداف الدولة، وكلاهما مع الدبلوماسية السياسية قد أدوا أدوارهم الوطنية بنجاح واتقان، وتلك أصناف من الدبلوماسية تمارسها الدول الكبرى والقوية والمتقدمة.
لكن الجديد أن مصر قد نحتت اصطلاحا قد انفردت به فى أدبيات العلوم السياسية، وهو»دبلوماسية الحضارة» وهذه مزية لا تستطع دولة ولا شعب الانتساب لها أو ممارستها اجرائيا لسبب وحيد وهو: أن الحضارة الوحيدة والمتبقية التى مازالت متجددة فى اكتشافاتها وعطائها هى الحضارة المصرية، والتى تشبه «جبل الجليد» كما يقول علماء الانثربولوجى عنه: أنه يظهر خُمسه فقط أما أربعة أخماسه مازالت لم تكتشف بعد، فهكذا الحضارة المصرية مازالت تبهر الانسانية، وتقدم جديدا متميزا ومتفردا مع اشراقة شمس كل يوم جديد، ورغم افتتاح المتحف المصري- الأول- فى 1902 والذى ضم ما يربو على (170 ألف) قطعة اثرية، وبعد قرن ونيف من الزمان تقدم الحضارة المصرية متحفا جديدا هو الأكبر على الإطلاق على اللوفر، والبريطاني، والمتروبوليتان، ليس فقط فى مساحته التى تخطت النصف مليون متر مربع، أو فى عمارته التى حازت جائزة البنايات العظيمة والخضراء، أو فى إلمامه مباهج الجيل الخامس وما تلاه من ثورة المعلومات التى حدثنا عنها قديما «الفين توفلر» بل فى مفهومه الجديد للمتحف الذى يقدم العرض التفاعلى والذى يظهر فلسفة المصرى فى نشأة الكون الذى بدأ من الماء ثم استقر على التراب، ويطالع الانسانية على الأركان الثلاثة للحضارة المصرية بين الملوك وإدارة الدولة، والمعتقدات الدينية وممارساتها، وتطبيقات العلوم والفنون والآداب فى جوانب الحياة اليومية، ما يدلل على مدنية الانسان المصرى منذ قدم التاريخ.









