مصر، تلك الأرض التى علّمت العالم معنى الحضارة، لم تكن يومًا دولةً تبحث عن الحرب، لكنها أيضًا لم تكن أبدًا أمةً تقبل بالانكسار.. هى صاحبة أول اتفاقية سلام فى التاريخ، غير أن هذا السلام لم يكن سلام الضعفاء أو الجبناء، بل سلام الشجعان الذين يملكون القوة والإرادة لحماية ما يؤمنون به.. سلامُ مصر لم يُولد فى قاعات المؤتمرات، بل وُضع أساسه فى ميادين القتال، حين كان على المصرى أن يختار بين أن يعيش حرًا مرفوع الرأس، أو أن يخضع لهيمنةٍ تُطفئ نوره وتكسر إرادته.. ومنذ ذلك الحين، صار السلام بالنسبة إلى مصر عقيدةً تُمارَس بالقوة لا بالتنازل، وبالعدل لا بالمحاباة.
>>>
حين أقول «السلام الخشن»، لا أعنى العنف ولا العدوان، بل أقصد السلام الذى تحرسه القوة، وتدعمه الكرامة، وتُثبته العدالة.. هو سلامٌ يدرك أن الضعف لا يجلب إلا الأطماع، وأن من يريد أن يعيش فى أمانٍ عليه أن يملك ما يحمى به هذا الأمان.. التاريخ المصرى حافل بالمواقف التى تُثبت أن السلام لا يتحقق إلا إذا وُجدت قوةٌ تُرغم الآخرين على احترامه.. فمنذ عهد الفراعنة، حين عقد رمسيس الثانى معاهدة قادش، أدرك العالم أن مصر لا توقّع سلامًا إلا من موقع القوة، بعد أن أثبتت فى الميدان أنها قادرة على القتال بقدر ما هى قادرة على التفاهم. لم يكن السلام المصرى يومًا استسلامًا، بل كان دومًا تتويجًا لمعركةٍ خاضها الوطن بشجاعةٍ وثقةٍ فى نفسه.
>>>
ومع مرور القرون، ظل هذا المبدأ راسخًا فى الوعى المصري.. فى كل لحظةٍ من لحظات التاريخ، كانت مصر تُذكّر من حولها أن السلام لا يُؤخذ بالمجاملات، ولا يُصنع بالشعارات، بل يُبنى على توازنٍ حقيقى بين القوة والحق. مصر لا تسعى إلى الحرب، لكنها أيضًا لا تتراجع عن الدفاع عن كرامتها أو عن حدودها أو عن أمنها القومي. هذا هو جوهر السلام الخشن: أن تمتلك الإرادة لتردع، لا لتُرهب، وأن تُبقى ليدك قوةً تمنع الآخرين من العبث، لا لتبطش بهم.
>>>
أما السلام الناعم – ذلك الذى يقوم على التنازلات أو الخضوع لضغوط الآخرين – فهو فى حقيقته هشّ، سرعان ما يتداعى عند أول اختبار.. سلامٌ كهذا لا يصمد، لأنه بلا عمق، وبلا سند، وبلا كرامة.. من يبع شيئًا من أرضه أو من قراره ليحصل على وهم السلام، لا يملك فى النهاية إلا السراب.. أمّا مصر، فتعلم جيدًا أن السلام الذى يُبنى على الضعف سلامٌ مؤقت، وأن من يفرّط اليوم فى حقه لن يجد غدًا من يُنصفه.. لذلك، فهى لا تساوم على كرامتها، ولا على دورها الإقليمي، بل تُمارس سياستها الخارجية انطلاقًا من مبدأٍ بسيطٍ لكنه صلب: السلام القوى هو وحده السلام العادل.
>>>
هذا المفهوم يتجلّى اليوم بوضوحٍ فى خطاب الدولة المصرية المعاصر.. فحين تتحدث مصر عن السلام، فإنها تتحدث من موقع المسئولية والقوة، لا من موقع التبعية أو الخوف.. تدعو إلى التهدئة، نعم، لكنها لا تقبل أن تكون التهدئة على حساب الحق أو العدل.. تمد يدها للجميع، ولكنها تحتفظ فى اليد الأخرى بدرعٍ وسيفٍ إن اقتضى الأمر.. تدعو إلى التعاون الإقليمي، ولكنها لاتسمح بأن يتحول التعاون إلى استغلالٍ أو ابتزاز.. مصر تُدرك أن السلام الحقيقى لا يتحقق إلا عندما يتساوى الجميع فى الاحترام والسيادة، لا عندما يُملى على طرفٍ ما أن يخضع لإرادة غيره.
>>>
إن هذا التوازن بين الدعوة إلى السلام والقدرة على الحماية هو ما ميّز مصر عبر تاريخها.. لم تكن يومًا دولةً منعزلة أو متهوّرة، بل كانت دولةً تعى قيمة الاستقرار، لكنها تعرف أيضًا أن الاستقرار لا يُشترى بالسكوت على الظلم.. لهذا كان من الطبيعى أن يتوارث المصريون عبر الأجيال تلك الفلسفة التى تمزج بين الحلم والقوة، بين اللين والحزم، بين الدبلوماسية والجاهزية.. فحتى حين تمتد يد مصر بالسلام، فإنها يدٌ تعرف كيف تمسك السيف إن لزم الأمر.
>>>
ولأن التاريخ يعيد نفسه، نجد أن خطاب مصر اليوم لا يختلف كثيرًا عن خطابها منذ آلاف السنين.. ما زالت تؤمن بأن السلام هدفٌ نبيل، لكنه لا يُهدى بل يُنتزع.. لا يُخلق فى المعامل ولايُشترى جاهزًا كما تُشترى الوجبات السريعة، بل يُصنع بالعرق والتضحيات والإيمان بالحق.. سلامُ مصر ليس «تيك أواي«، كما يُقال، بل هو عمليةُ بناءٍ طويلةٌ تحتاج حكمة فى الرؤية وقوة فى التنفيذ.. إنه سلامٌ يعكس جوهر الشخصية المصرية: الاعتزاز بالذات، والإيمان بالقيم، والقدرة على الجمع بين الصبر والحزم.
>>>
لهذا أسميه السلام الخشن، لأنه سلامٌ يعرف متى يكون لينًا ومتى يكون صارمًا.. سلامٌ لا يتراجع عن الحق، ولا يتردّد فى الدفاع عنه.. سلامٌ يقوم على منطق العدل لا منطق الغلبة، وعلى احترام الذات لا على التنازل عنها.. إنه سلام مصر، سلام الشجعان لا الخانعين، سلامٌ صيغ بالحكمة، وحُمى بالقوة، وظل عبر التاريخ عنوانًا لوطنٍ لا يعرف الهزيمة.









