من السهل أن تفعل كل شيء إلا أن تصنع الحضارة وتكتب التاريخ، هذا يحتاج إبداعا وابتكارا، يتطلب عقولاً مختلفة وأفكاراً ليست تقليدية الفراعنة صنعوا الحضارة لأنهم كانوا مبدعين وكتبوا التاريخ لأنهم نظروا للمستقبل بعيون مختلفة.
هناك دول تتباهى يملك أو عصر واحد وتعتبر أنها جزء من التاريخ بينما الدرج العظيم وحده يضم 72 ملكا لكل ملك منهم حكايته الخاصة وإنجازاته التي تستحق متحفا منفردا، فما بالك بالمتحف الكبير نفسه الذي يتسع لأكثر من مائة ألف قطعة بعضها للفرعون الذهبي وبعضها لرمسيس الثاني وبعضها الخوفو وغيرهم من ملوك الأسر المختلفة تاريخ ان كتب لن تكفيه ألاف المجلدات ولن تستوعيه مئات المكتبات ومن خلاله يمكن أن تقرأ تاريخ البشرية كلها بل وأصول كل شيء من الفن إلى الطب والفلك والكيمياء والعمارة والرى من تأسيس الجيوش وخوض الحروب والانتصارات إلى السلام والمعاهدات والعلاقات الإنسانية، لذلك فهي حضارة صنعت الخلود وفرضت نفسها وكتبت على الجميع عشقها واحترامها.
مشكلتنا أننا لسنوات طويلة لم تكن على قدر هذه الحضارة العظيمة، ولم نعرف كيف نستثمرها ليس فقط اقتصاديا وانما إنسانيا وثقافيا كقوة ناعمة مبهرة ومؤثرة لا تنتهى ولا تنطفئ أبدا تعاملنا معها بمنطق يغلب عليه المنفعة المباشرة التي لا تعتمد على فهم هذه القيمة، ورغم صرخات البعض من المتخصصين والعاشقين للآثار المصرية بضرورة تغيير فلسفة التعامل مع الأثر لكن لم تستمع اليهم كثيرا، أحيانا بسوء فهم وأحيانا بسبب التأثر بجماعات التكفير والظلامية الذين اعتبروا الحضارة أصناما والملوك نماذج للشرك بالله فضيع هؤلاء علينا الكثير من الوقت جماعات قندهار من الإخوان والسلفيين وغيرهم الذين حرموا علينا كل شيء إلا ما يلبي رغباتهم وشهواتهم.
وحسنا أن تخلصت «الجمهورية الجديدة» من كل هذا وفرضت إرادتها الحضارية وحققت الحلم الذي طال انتظاره بالمتحف المصرى الكبير الذي وصفه الرئيس عبد الفتاح السيسي بأنه ليس مجرد مكان لحفظ الترات بل منارة للمعرفة وملتقى للإنسانية ورسالة على عبقرية المصرى الذي كان ولا يزال قادرا على صناعة المحد.
فكرة المتحف الكبير من بدايتها وصولا إلى لحظة الافتتاح المبهر تؤكد إدراك الدولة وقيادتها لقيمة الحضارة المصرية القديمة مكانتها وإنها يجب أن تقدم للعالم بما يليق بها كحضارة فيها تجسيد للعبقرية ودعوة السلام وترسيخ القيم الإنسانية وروح التعايش بين الثقافات.
هذا الإدراك من الدولة لم يكن فقط في المتحف الكبير على ضخامته وتفرده، فقبله كان متحف الحضارة وموكب المومياوات وكان افتتاح طريق الكباش ومتحف عواصم مصر بالعاصمة الإدارية وكانت متاحف شرم الشيخ وسوهاج وغيرها الكثير وكان الترميم لكل الآثار التي تعرضت للخطر.
كل هذا ترجم الوعى بمعنى التاريخ وقيمة الحضارة. ثم جاء المتحف الكبير كايقونة المتاحف ودرة التاج التي ربطت بين عبقرية الماضي وإبداع الحاضر في تواصل حضاري يترجم عظمة مصر ومكانتها بين الحضارات.
وجاء الاحتفال الذي خاطب العالم برسالة مصر السلام والمحبة ليؤكد أن لدينا الآن صرحا عظيما قادرا على أن يستضيف ويستوعب كل ضيوف مصر من محبى حضارتها والراغبين في التعرف على أسرارها ومكنونها.
الحفل كان موجها للخارج لأننا من نريده أن يعرف عنا أكثر وأن يستمع إلينا من جديد بلغة الحضارة وعندما يتم تداول صور الافتتاح والمتحف بالمليارات بين كل شعوب العالم. فالمؤكد أن نتيجة الاحتفال قد وصلت وأن رسالتنا قد حققت النجاح المطلوب وعلينا أن نستكمل العمل وأن نستثمر المتحف جيدا.
بالتأكيد الاستثمار الاقتصادى أولوية كبيرة، وهو ما تقوم عليه مؤسسات متخصصة والأرقام المتوقعة من هذا مبشرة جدًا.
لكن هناك استثمارا آخر للمتحف وهو الاستثمار الإنساني والثقافي لصالح الرسالة المصرية، وأن يكون المتحف كما قال الرئيس منارة للمعرفة وملتقى للإنسانية، فمن داخل هذا المتحف يجب ان يستمع العالم كل يوم الرسالة مصرية تحمل قيمة جديدة وأن يكون يوم افتتاحه مناسبة احتفال عالمية سنوية، وأن يظهر فيه دوما جملة نوبل وأعظم المفكرين ودعاة السلام.
الأهم أن دعوة الرئيس السيسى للسلام يمكن أن تتحول إلى وثيقة سلام عالمية تنطلق من المتحف بحيث يأتي اليه كل هؤلاء الرموز العالمية ليوقعوا عليها وتصبحوثيقة مصر الحضارة إلى الإنسانية تحت العنوان الذي أطلقه الرئيس «تحيا الإنسانية».
ومثلما ستفتح أبواب المتحف لزائريه يجب أن تخصص قاعاته للمفكرين، ليقدموا إبداعاتهم الجديدة في سياق التواصل الحضاري.. فمصر مؤهلة الآن لتكون مركزا للأشعاع و للإبداع العالمي والمتحف المكان الأنسب.









