المتحف بكل ما فيه يسقط الثنائية البغيضة.. حول مفاضلة البشر أو الحجر.. ذلك ان الانسان المصرى القديم والحديث أيضا.. جعل من الحجر ميدانًا للفعل وللإنجاز الانسانى
فيثاغورس زار مصر وأبهر بالهرم الأكبر ومن هندسته استقى نظريته الرياضية الشهيرة
الفيلسوف العظيم افلاطون خرج من الحضارة المصرية بفلسفته
أو ما يسمى «كهف أفلاطون»
جاء العالم إلينا وهو مستعد للمجىء مرات.. لاننا عنصر ايجابى في حركة العالم والانسانية فى تضافر قوى بين قوانا الناعمة وتلك الصلبة أو الخشنة
بقلم : حلمى النمنم
في 13 أكتوبر، جاء قادة العالم الي مصر، تحديدا مدينة السلام، شرم الشيخ، لحضور توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة بفلسطين المحتلة، بعد أكثر من عامين من التدمير والنيران التي لم تهدأ يوما..وبعد أقل من عشرين يوما، يجيء بزخم أكبرالقادة والزعماء من 79دولة إلي مصر للمشاركة في افتتاح المتحف المصري الكبير.. في شرم الشيخ، كان العالم يريد التخلص من عبء القتل للقتل الذي يجري للمدنيين الابرياء في غزة، دون ذنب ارتكبوه، سوي أنهم يقعون تحت احتلال بغيض، يود إفناء الشعب الفلسطيني بأكمله، حتى تتحقق مقولة إن فلسطين أرض بلا شعب.. أمام ذلك التوحش، لم يكن هناك سوى مصر، التي تبنت من اللحظة الاولى لنشوب القتال موقفًا واضحا ومحددا، يتمثل في ضرورة وقف العنف والارهاب أولًا ثم الانخراط في عملية سلام تقود الى اقامة دولة فلسطينية مستقلة.. وهكذا في قلب النار، كانت مصر الحاضر، الفاعل، وجاء قادة العالم الي شرم الشيخ ليشهدوا لحظة البداية لعملية سلام وتحرر الشعب الفلسطيني في غزة.
في افتتاح المتحف المصري الكبير، جاء أكبر عدد من الملوك والرؤساء ورؤساء الوزراء، فضلا عن الوزراء ليشهدوا الحدث الاعظم في هذا القرن، المتحف أقامه المصريون ليضم كنوز الحضارة المصرية القديمة، التي هي كنوز انسانية بكافة المعايير.
المتحف بكل ما فيه يسقط الثنائية البغيضة، حول مفاضلة البشر أو الحجر، ذلك ان الانسان المصري القديم والحديث أيضا، جعل من الحجر ميدانًا للفعل وللإنجاز الانساني المبدع والخلاق، حتى صار من المعيب، بقدرما هو جهل القول- مثلا- إن تمثال ابو الهول مجرد صخرة أو قطعة حجر، هو قطعة فنية وحضارية، تحمل روح الابداع وعمق التاريخ..هذا ما أنجزه الانسان المصري منذ آلاف السنين وهذا ما نقوم به نحن الآن.
يأتي العالم الينا، حين نكون عنصرا فاعلًا ونشطا به، الفعل الإيجابي والانساني، وهكذا كنا ولا نزال في غزة، دعمنا الحق من اللحظة الاولى وتمسكنا بالحقيقة وهي انه لايجوز طرد شعب من وطنه وأرضه وأننا لن نقبل ان تصبح بلادنا وطنا بديلا، وبجهد دبلوماسي ومقاومة حقيقية قامت بها الدولة المصرية تم استبعاد فكرة التهجير القسري للفلسطينيين وأدركت كل الاطراف انه لا حل عسكرياً حاسماً للقضية ولابد من حل سياسى وكان هو الحل المصري.
جاءنا العالم في شرم الشيخ لوضع حل لإراقة الدماء وكي يتخلص الضمير الانساني من جريمة الإبادة الجماعية، لكنه جاءنا في افتتاح المتحف المصري الكبير، احتفاء واحتراما لمصر القديمة، الهوية والحضارة المصرية العظيمة، هذه الحضارة باتت جزء من تاريخ العالم وحضارته الانسانية.
توت عنخ آمون ورمسيس الثاني وأحمس وتحتمس وحتشبسوت، ملوك مصر القديمة فعلًا، لكن بإنجازاتهم صاروا ملوكًا للإنسانية كلها.
صحيح ان مقتنيات المتحف هي من الألف إلى الياء مصرية، لكنها بالتأثير والزخم الثقافي جزء عزيز من ضمير الانسانية كلها، لذا وجدنا القادة من مختلف دول العالم، بدءابالأشقاء العرب يقفون امامها إ جلالا واحترامًا.
قبل عشرين عاما كنت في زيارة الى جنيف، وكان سائق الباص سعيدًا وهو يحكي ان ابنته الصغيرة تدرس الحضارة المصرية القديمة وانه يساعدها في الدرس وازداد معرفة بعظمة مصر القديمة، في المناهج المدرسية بعدد كبير من دول ألعالم يدرسون الحضارة والتاريخ المصري القديم، في الجامعات الكبرى حول العالم يوجد علم المصريات.
آثارنا ليست مجرد قطع فنية وهندسية فقط، لكن وراءها حكمة وفلسفة متكاملة، فتح لنا عدد من الفلاسفة الكبار هذا المجال، كان فلاسفة الإغريق القدامى يعتبرون أنفسهم «عيالًا “، على الحضارة المصرية.
أبو الفلسفة الاغريقية طاليس، جاء الي مصر وصل حتى الفيوم واستقي من تعامل المصريين مع نهر النيل فلسفته في ان الماء أصل الكون والحياة.
فيثاغورس زار مصر وأبهر بالهرم الأكبر ومن هندسته استقي نظريته الرياضية الشهيرة.
الفيلسوف العظيم افلاطون خرج من الحضارة المصرية بفلسفته أو مايسمى «كهف أفلاطون»
كتاب «الخروج الي النهار»، يطلق عليه «كتاب الموتى»، ملئ بالحكم والاخلاق العميقة..لا تكذب، لاتسرق، لا تقتل ، لاتعتدي على شرف أخيك، لا تلوث ماءً النهر.
لدينا قطعة ادبية رفيعة المستوى هي شكاوى المصري الفصيح، تعكس اعتزاز المصري واحساسه الفطري بالعدالة والكرامة، شكوى القبطي المصري الي الخليفة عمر بن الخطاب من تجاوز «ابن الأكرمين» في حقه تؤكد ان الاحساس بالكرامة الانسانية لم يهتز يومًا لدي المصري ولا تراجع ايمانه بالعدالة.
لقد جعل المصري القديم للعدالة الهة اسمها «ماعت»، يعرفها العالم كله اليوم.
وحاول سليم حسن دراسة الادب المصري القديم، لكن هذا الذي بين ايدينا ليس كل شيء، هو غيض من فيض كما يقال، ما يزال هناك الكثير الذي لم نعرفه بعد، ورغم ندرة ما اكتشف فانه كان كافيا كي يعلن العالم الامريكي «جيمس هنري برستيد «ان الضمير الاخلاقي وفكرة الاخلاق نفسها في حياة المجتمعات والانسان نشأت وتشكلت في مصر، من خلال حياة المصريين.
نعرف الآن أن الاخلاق في مصر القديمة، باتت مقررا دراسيا في بعض أقسام الفلسفة بجامعاتنا نتمنى ان يتوسع هذا الاتجاه، الحضارة المصرية القديمة لا تدرس ولا يجب ان تحاصر داخل كليات أو أقسام الاثار فقط، دراسة الآثار معروفة، لكنما وراء هذه الآثار من قيم وافكار ينبغي ان تدرس في تخصصات وعلوم أخرى.
ماجاء زعماء العالم إلينا، سواء في شرم الشيخ أو في الافتتاح العظيم، مجاملة ولا اظن ان لدي كل منهم بحبوحة من الوقت ليغادر بلده لعدة ايام.
جاءوا لان الملك توت عنخ آمون وغيره من حكام مصر، جزءا عزيزا في وعيهم وتفكيرهم.
الاهتمام المصري الرسمي، بدءا بالرئيس نفسه بإنشاء المتحف وتقديم آثارنا على هذا النحو، الذي أبهر العالم كله، رسالة ان مصر المعاصرة جادة في الحفاظ علي هذه الآثار وصيانتها، ليس فقط للاعتبارات السياحية التي يسعى اليها كثير منا، لكن أيضا انها جذر عمي وأصيل في هويتنا، وقد ثبت مع نوائب الازمان ان ذلك الجذر عصي على الالغاء أو الاقتلاع ولا حتى التهميش .
طوال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت آثارنا تنهب وتهرب الي الخارج، وكان لسان حال المهربين من تجار ولصوص ورجال الاستعمار، سواء كانوا قناصل أو اداريين، ان المصريين لايعون قيمة تلك القطع ولا يقدرونها، وأنها في متاحف اوروبا سوف تجد الحفظ والصيانة، بينما هنا يكون مصيرها الإهمال او التبديد. كانت هذه النغمة تتردد كثيرا.
مع انشاء المتحف الكبير، المعني واضح ان اثارنا موضع اهتمام واحتفاء ليس فقط باننا نجرم سرقتها ونحاكم اللصوص ولكن بتقديمها ومايليق بها من احترام وتقدير، الرسالة صدرت من مصر كلها على لسان السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى الذي قال إن هذا الصرح العظيم ليس مكانا لحفظ الآثار بل منبرا للمعرفة والإنسانية.
لذا لم يكن غريبا ان تعلن ملكة هولندا، عقب الافتتاح ان هولندا قررت ان تعيد الى مصر قطعة اثرية نادرة موجودة لديها.
واظن انه بات علينا ان نبذل جهدًا اكبر لاستعادة آثارنا في الخارج ، وهي عديدة ، خاصة تلك التي خرجت بطرق غير مشروعة.
جاء العالم الينا وهو مستعد للمجيء مرات، لاننا عنصر ايجابي في حركة العالم والانسانية في تضافر قوي بين قوانا الناعمة وتلك الصلبة أو الخشنة.
هذا الحضور العالمي يبدد مقولة ترددت في السنوات الاخيرة، تدعونا الى مايسمي «الانكماش الاستراتيجي»، حتى نتجاوز بعض مشاكلنا، لكن درس التاريخ وملاحظات الحاضر، تؤكد ان الانكماش والتقوقع مضر بمصر والمصريين، الخصوم والاعداء يريدون لنا الانكماش، الوضع السياسي والجغرافي لمصر يرفض الانكماش، يكفي تأمل احوال البلاد الحدودية معنا لندرك ان الانكماش نوع من الهزيمة والتفريط.
مجيء العالم بهذا الحماس يبدد كذلك مقولات المهزومين، الذين يرفضون اي انجاز او أي مشروع نقدم عليه بدعوى اننا فقراء وان كل جهدنا يجب ان يكون في توفير الطعام والشراب والسجائر وملحقاتها، نظرية الضعف والاستذلال بدعوى الفقر، نظرية تليق بالعبيد فقط، الغريب ان من يرددون ذلك بيننا يضعون أنفسهم في خانة الثوار.
هؤلاء كانوا موجودين مع كل مشروع تقدم عليه مصر منذ انشاء القناطر الخيرية زمن محمد علي وحتى افتتاح قناة السويس ايام اسماعيل باشا، وصولا الى بناء السد العالي زمن جمال عبد الناصر وسمعناهم سنة 2015 ، حين قرر الرئيس السيسى الشروع في بناءً المتحف الكبير وتدبير كافة الموارد للبناء.
عظيمة يامصر دائما وابدا.
عظيمة بتاريخها وحاضرها.
عظيمة شعبا واعيًا ودولة وطنية/ مدنية حديثة









