لا أكتب اليوم بصفتي مراقبًا لحدث، بل شاهدًا على مرحلة عالمية تعيد رسم خرائط القوة والمعنى. فبينما يتزايد الاعتراف الدولي بدبلوماسية الأزهر بوصفها «قوة ناعمة» فاعلة في مواجهة الانغلاق والتطرف، تتنامى في المقابل ظواهر العنف العرقي والإسلاموفوبيا في مشاهد تكشف هشاشة الضمير الإنساني أمام رياح الأزمات.
خلال متابعتي لما جرى هذا الأسبوع من تقدير روما لجهود الإمام الأكبر إلى تصاعد المأساة في دارفور وعودة خلايا «داعش» إلى مسرح الأحداث أدركت أن معركة الوعي لم تعد ترفًا فكريًا، بل صارت شرط.
البقاء للعالم كله
والحقيقة أن هذه قناعة أصل لها عند قرأتي لكل تقرير أو خبر يصلني من وحدات المرصد يوميًا أو أسبوعيًا… فمن خلال عدسة الرصد اتمكن من رؤية المشهد عن قرب ومن خلال تنوع الرؤى وفقا لمتغيرات كل سياق يتضح لي أن السلام قد يكون هدف كل إنسان سوي، لا سيما رجال الدين والمنشغلين بالحوار بهدف التفاهم ومن ثمّ التعايش إلا انه في النهاية لابد ان يرتدي رداء دبلوماسيا يتسم بمعرفة الآخر وخلفيته وبالمرونة وطول البال والنفس الطويل جدًا.
دبلوماسية السلام.. من الاعتراف الرمزي إلى الشراكة الدولية
شهدنا جميعاً استقبال فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب في قصر الرئاسة الإيطالي، لم يكن هذا حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل لحظة كاشفة لانتقال «وثيقة الأخوة الإنسانية» من المبادرة الأخلاقية إلى المرجعية المؤسسية في حل النزاعات.
ذلك اللقاء في «روما» لم يكن مجرد إشادة بموقف، بل إقرارًا بأن للأزهر اليوم دورًا يتجاوز حدود التعليم والدعوة، إلى صناعة التوازن الأخلاقي في زمن فقدت فيه السياسة بوصلتها الإنسانية، فلقد أصبح الأزهر شريكًا إستراتيجيًا في دبلوماسية السلام، قوةً ناعمة تُسهم في إعادة تعريف القوة ذاتها: من السيطرة إلى الحوار، ومن الردع إلى الإلهام.
وفي المقابل، تابعتُ بقلقٍ بالغ محاولات طمس الهوية الإسلامية في بعض المجتمعات، كما في الهند حين تم تغيير اسم قرية «إسلامبور» إلى «إيشواربور»، هذه الممارسات لا تعكس فقط نزعة تهميش ديني، بل مشروعًا متكاملًا لإعادة صياغة الذاكرة الجمعية بما يخدم خطابًا قوميًا متطرفًا، إنها ليست حرب أسماء، بل حرب انتماء.
وعندما تتحوّل اللغة والرموز إلى أدوات إقصاء، فإننا أمام تحوّل خطير في بنية الوعي الجمعي، يتحوّل فيه «الآخر» من شريك في المواطنة إلى كيان منقوص الشرعية.
وهنا يتضح لي حقيقة أخرى أن التطرف يستغل «الفراغات» وليس العقول فقط، فقد بدا واضحًا أن الجماعات الإرهابية وعلى رأسها «داعش» لم تعد تسعى لإعادة بناء دولتها المزعومة، بل لبناء شبكات إجرامية لامركزية تستغل الفراغات الأمنية والاقتصادية لتغذية العنف، كما أن الفراغ الأمني في سوريا، والاقتصادي في إفريقيا، والقانوني في بعض المناطق الهشة، كلها تشكّل بيئة خصبة لتحوّل الإرهاب إلى نمط حياة موازٍ، يعيش على ضعف الدولة ويقتات على الفوضى.
إننا لا نواجه فكرًا متطرفًا فحسب، بل اقتصادًا منظمًا للعنف، يربط بين تجارة السلاح وتهريب البشر وغسل الأموال، ويعيد إنتاج نفسه كلما غاب الوعي الجمعي وانهارت منظومات العدالة، وفي المقابل، يبعث الأمل نجاح السلطات الكينية في إحباط هجوم إرهابي بفضل تعاون الأهالي ومعلوماتهم الدقيقة.
تلك الواقعة البسيطة تختصر فلسفة مكافحة التطرف في جملة واحدة: وعي الناس هو خط الدفاع الأول عن الأوطان، ما لم يتحوّل الأمن الفكري إلى مسئولية مجتمعية، سيظل التطرف يجد طريقه عبر الجهل والحرمان والتهميش.
بين الغرب والشرق تحولات في المزاج الديني العالمي
من اللافت أن تقرير مركز «بيو» الأمريكي أظهر ارتفاعًا ملحوظًا في نسبة من يرون أن الدين يزداد تأثيرًا في الحياة العامة بالولايات المتحدة، وهذه العودة البطيئة للدين إلى المجال العام الغربي قد تكون فرصة لخطاب ديني رشيد يتجاوز الانغلاق والعلمنة الصلبة، ويفتح أفقًا لحوارٍ إنساني يقوم على التكامل لا الصدام.
وهنا أجد أن الدور الذي يقوم به الأزهر عالميًا ليس دفاعًا عن الإسلام بقدر ما هو دفاع عن الإنسان، في وجه عالمٍ ينهكه التطرف من كل اتجاه، وقراءة هذا المشهد المتداخل بين الاعتراف العالمي بروح الأزهر وتصاعد خطاب الكراهية في مناطق مختلفة تجعلني أكثر يقينًا بأن المعركة الحقيقية ليست بين الشرق والغرب، ولا بين الأديان والحضارات، بل بين من يؤمن بكرامة الإنسان ومن يسعى لطمسها باسم العرق أو العقيدة
من هنا، أرى أن مسئوليتنا الفكرية لا تقتصر على الرصد والتحليل، بل تمتد إلى الفعل والمبادرة، وإلى إعادة بناء الوعي العالمي على قيم الرحمة والعقل والإنسانية التي يمثلها الأزهر الشريف.
ففي زمن الضجيج، لا ينتصر إلا الصوت الذي يحافظ على نقاء المعنى.









