خلال أسابيع قليلة، امتلأت القلوب المصرية بمزيج من الزهو والانتماء، وكأن الوطن استعاد عافيته من جديد بعد رحلة طويلة من التحديات. كانت البداية حين تصدرت مصر المشهد السياسى الإقليمى والدولى فى لحظة فارقة، لحظة قالت فيها القاهرة كلمتها بثقة وهدوء، وأعادت البوصلة إلى موضعها الصحيح فى واحدة من أكثر القضايا حساسية فى تاريخ المنطقة. وحدها مصر استطاعت أن تبنى حائط صد عالميًا ضد محاولات تصفية القضية الفلسطينية، وأن تجعل من شرم الشيخ محطة نور فى زمنٍ معتم. لم تكن قمة عادية، بل كانت شهادة جديدة على أن صوت القاهرة لا يُهمَل ولا يمكن تجاوزه، وأن حكمة الدولة المصرية حين تتحدث يسمعها العالم باحترام.
ثم جاء التتويج الثقافى حين حمل العالم اسم مصر عاليًا مرة أخرى بانتخاب خالد العنانى مديرًا عامًا لمنظمة اليونسكو. ذلك الحدث لم يكن نصرًا دبلوماسيًا فحسب، بل تأكيد على أن لمصر ما تقول وما تقدمه فى ميدان الثقافة والحضارة والمعرفة. مصر التى علمت الدنيا معنى التراث الإنسانى تعود اليوم لتدير المؤسسة التى تحمى هذا التراث، وكأن التاريخ يبتسم من جديد لمن يعرف قيمته ويحترم جذوره. فى هذا الفوز كانت صورة مصر تتشكل على نحوٍ يليق بها: عريقة، مثقفة، مؤثرة، تمد يدها للعالم لا من موقع الحاجة، بل من موقع القوة والعطاء.
>>>
فى اللحظة التى امتلأت فيها الساحات بالبهجة، أضاف المنتخب الوطنى لكرة القدم فصلاً جديدًا إلى كتاب الفخر الوطنى بصعوده إلى نهائيات كأس العالم للمرة الرابعة فى تاريخه. كرة القدم هنا ليست مجرد لعبة، بل مرآة لوجدان الناس، ومتنفس لأحلامهم، ومسرح للمشاعر الجمعية التى توحّد المصريين بلا استثناء. كل هدفٍ سجله اللاعبون كان رسالة أمل، وكل مباراة كانت مساحة فرحٍ نادرة فى زمنٍ مثقل بالهموم. أعادت كرة القدم إلينا شيئًا من البساطة التى افتقدناها، ذلك الفرح النقى الذى يخرج من القلب بلا حسابات، والدموع التى تنهمر من عيون الكبار قبل الصغار لأنهم شعروا للحظة بأن الوطن ينتصر من جديد.
ثم جاءت قمة مصر والاتحاد الأوروبى لتضع نقطة مضيئة جديدة فى سجل الدبلوماسية المصرية. كانت القمة بمثابة اعتراف أوروبى صريح بأن مصر لم تعد مجرد دولة فى الجنوب، بل شريك إستراتيجى لا غنى عنه فى معادلة الأمن والاستقرار والتنمية. صورة الرئيس المصرى وهو يتحدث باسم وطنه من موقع الندية والاحترام أعادت إلى الأذهان هيبة الدولة المصرية التى طالما كانت صمام أمانٍ للمنطقة. فى تلك اللحظة شعر المصريون بأن بلادهم فى أعلى عليين، وأن العالم ينظر إليهم بإعجابٍ لا مجاملة.
جاء افتتاح المتحف المصرى الكبير ليشعل جذوة الفخر فى النفوس كما لم يحدث منذ عقود. ذلك الصرح ليس مجرد متحف، بل بيان حضارى مهيب يربط بين الماضى المجيد والحاضر الطموح. هنا، حيث يقف توت عنخ آمون فى ثوبه الذهبي، وحيث تتحدث الجدران بلغة المصرى القديم عن الخلود والجمال والإبداع، يدرك الزائر أن هذه الأرض لا تشبه غيرها، وأن المصرى حين يعمل يصنع ما يبقي. المتحف المصرى الكبير هو مرآة مصر الحديثة التى تعرف كيف تحفظ تاريخها وتعرضه للعالم فى أبهى صورة، وكيف توازن بين الأصالة والمعاصرة دون أن تفقد ملامحها.
>>>
هذه الانتصارات المتتالية، من السياسة إلى الثقافة إلى الرياضة إلى الحضارة، صنعت حالة وجدانية فريدة لدى المصريين. فجأة شعر الجميع بأن البلد تمضى فى طريق مختلف، وأن هناك روحًا جديدة تسرى فى الشوارع والبيوت والقلوب. لكن هذه الحالة – على جمالها – تحتاج إدارة رشيدة، لأن الفخر مثل أى رصيد يمكن أن يتبدد إن لم نحسن استثماره. إننا أمام مخزون ضخم من الطاقة الوطنية يجب أن نحوله إلى وعيٍ منتج، لا إلى انفعالٍ عابر. فالفخر ليس غاية فى ذاته، بل وسيلة لتحريك الإرادة الجماعية نحو مزيد من العمل والانضباط والتفوق.
الشباب الذين استيقظوا مؤخرًا على حلم التفوق المصرى قديمًا ومحاولات اللحاق بركب التطور حديثًا، هؤلاء الذين يهتفون من قلوبهم «تحيا مصر»، هم الثروة الحقيقية التى يجب أن نحسن توجيهها. يجب أن نغذيهم بحكايات الوطن لا بالشعارات الجوفاء، وأن نحكى لهم عن مصر التى كانت منارة العلم والفن والسياسة، وعن المصرى الذى لم يعرف المستحيل عبر العصور. فالإحساس بالفخر إذا لم يُترجم إلى وعيٍ يصبح مجرد موجةٍ تنحسر سريعًا، أما إذا صُهر فى وعيٍ وطنى صادق، فسيصبح طاقةً دائمة تدفع المجتمع كله إلى الأمام.
لقد آن الأوان لأن نضع إستراتيجية لإدارة رصيد الفخر الوطني، تمامًا كما ندير الثروات المادية. هذا الرصيد يجب أن يُستثمر فى التعليم، فى الثقافة، فى الفن، فى الإعلام، فى كل ما يصنع عقلاً واعيًا وقلبًا محبًا. نحن بحاجة إلى خطابٍ جديد يخاطب عقول الناس لا عواطفهم فقط، يزرع فيهم فكرة أن حب الوطن مسئولية لا أغنية، وأن الفخر الحقيقى هو فى العمل والإتقان والقدرة على الإضافة.
>>>
المصريون شعبٌ مختلف، وحضارتهم تشهد بذلك. كلما ظن البعض أنهم انكسروا، خرجوا من رحم المعاناة أقوى وأكثر وعيًا. هم لا يفقدون الإيمان بوطنهم مهما كانت الظروف، لأنهم ببساطة أبناء حضارةٍ لا تعرف الانكسار. وما نعيشه الآن هو لحظة نادرة من التلاقى بين الماضى المجيد والحاضر الواعد، بين الفخر التاريخى والطموح العصري. ولذلك فإن إدارة هذا الشعور الجمعى مسئولية وطنية كبري، لأن الحفاظ على حرارة الانتماء أصعب من إشعالها. فلتكن هذه المرحلة نقطة انطلاق نحو وعيٍ وطنى جديد، ودفترًا جديدًا نكتب فيه قصة مصر القادمة… قصة لا مكان فيها لليأس، ولا حدود فيها للأمل.









