من قلب الحضارة، من أرضٍ نطقت أحجارها بالحكمة، وتحدّث ترابها عن المجد، تطلّ علينا مصر مجددًا بوجهها الحضارى المشرق مع افتتاح المتحف المصرى الكبير، هذا الصرح الفريد الذى أعلن عنه فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسى هديةً من مصر إلى الإنسانية جمعاء. فالمتحف ليس مجرد مبنى يضم قطعًا أثرية، بل هو بوابة عبور بين الماضى والمستقبل، وشهادة جديدة على أن مصر ما زالت قادرة على الإبداع والعطاء والريادة فى بناء الحضارات المستدامة. لقد نجحت مصر فى أن تجعل العالم يقف مبهورًا أمام هذا المشروع الذى لا يضاهيه مشروع ثقافى آخر فى العصر الحديث، مشروع يجمع بين عبقرية الموقع، وروعة التصميم، وعمق الرسالة التى يحملها إلى الإنسانية بأسرها.
إن هذا الزخم العالمي، وهذه الحالة النادرة من التوحد الإنسانى حول تجربة المصريين القدماء، تفرض علينا التفكير فى كيفية استثمارها على نحوٍ أعمق وأبقى أثرًا. فالعالم اليوم لا ينظر إلى الحضارة المصرية بوصفها صفحة من الماضى فحسب، بل باعتبارها مرجعًا فكريًا وروحيًا وعلميًا متجدّدًا يمكن أن يلهم الإنسانية فى طريقها نحو المستقبل. من هنا تبرز الفكرة التى أرى أنها جديرة بالدراسة والتنفيذ، فكرة إنشاء -جامعة علوم المصريات- جامعة تتخذ من المتحف المصرى الكبير بوصلةً تهتدى بها، ومن روح الحضارة المصرية منارةً تضيء طريقها العلمى والمعرفي.
إنّ إنشاء جامعة متخصصة فى علوم المصريات لن يكون مجرد إضافة أكاديمية، بل سيكون نقلة نوعية فى مسار بناء الإنسان المصرى الواعى بجذوره، والمتفاعل مع حضارته العريقة، والقادر على تحويل إرث أجداده إلى طاقة معرفية تدفع نحو المستقبل. فلطالما كانت مصر منارة للعلم والبحث، وها هى اليوم تملك فرصة فريدة لتجعل من علم المصريات ليس فقط مادة للدراسة فى جامعات العالم، بل رسالة حضارية تصدرها من قلبها إلى كل بقاع الأرض. ستكون هذه الجامعة مركزًا عالميًا يجتمع فيه الباحثون والمهتمون والدارسون من شتى أنحاء العالم، ليغوصوا فى أسرار الحضارة المصرية، ويفكّوا رموزها، ويستكشفوا العلاقة بين عبقرية القدماء المصريين والعلم الحديث فى مجالات الطب والهندسة والفلك والفنون والعمارة والبيئة والروحانيات.
فى هذه الجامعة، يمكن أن تتكامل المعارف القديمة مع أحدث ما توصّل إليه العلم الحديث، فنعيد قراءة النقوش والبرديات بعين جديدة، ونربط بين ما سجّله الكهنة والعلماء فى معابدهم وما تكتشفه معامل الأبحاث اليوم من قوانين الطبيعة والكون. إنّ علم المصريات لا ينبغى أن يبقى محصورًا فى نطاق الآثار والتنقيب فحسب، بل يجب أن يمتد ليصبح مدخلًا لفهم الإنسان وعلاقته بالوجود، وفلسفة الحياة والموت، والتناغم مع البيئة، وهى كلها قيمٌ أساسية أرساها المصرى القديم قبل آلاف السنين.
لعلّ أجمل ما فى هذه الفكرة أنّها تنسجم تمامًا مع رؤية فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى جعل من بناء الإنسان المصرى هدفًا إستراتيجيًا للدولة الحديثة. فالرئيس يدرك أنّ النهضة الحقيقية لا تقوم على الحجر وحده، بل على الوعي، على استعادة الإنسان لذاته ووعيه وهويته، وعلى تزويده بالأدوات التى تمكّنه من قراءة ماضيه قراءة صحيحة تُعينه على بناء مستقبله. ومن هنا، فإن جامعة علوم المصريات ستكون إحدى أدوات الوعى الحقيقى غير الزائف – الذى دعا إليه الرئيس مرارًا- وركيزة من ركائز القوة الناعمة المصرية فى عالمٍ يتعطّش للمعنى والهوية والجمال.
كما أنّ توقيت طرح هذه المبادرة الآن يُعدّ مثاليًا، فالعالم كلّه يتابع بشغف أخبار المتحف المصرى الكبير، ويندهش من ضخامة المشروع ودقّة تفاصيله، ويتفاعل مع كل ما يخصّ الآثار المصرية من معارض واكتشافات ومسارات سياحية وثقافية. إنّ الإعلان عن دراسة إنشاء جامعة لعلوم المصريات فى هذا التوقيت سيُضيف بعدًا إستراتيجيًا للمشهد الثقافى المصري، وسيحوّل الاهتمام العالمى من مجرد متابعة للأثر إلى مشاركة فى بناء مستقبل المعرفة بالحضارة المصرية. ستصبح مصر قبلة للباحثين، ومركزًا للأبحاث الدولية، ومحرّكًا جديدًا لصناعة السياحة الثقافية والتعليمية فى آنٍ واحد.
جامعة علوم المصريات يمكن أن تضم كليات ومعاهد متخصصة فى دراسة اللغة المصرية القديمة، وتاريخ الفن والعمارة، وعلم الفلك والطب عند الفراعنة، بالإضافة إلى أقسام متقدمة فى تكنولوجيا الترميم الرقمي، وعلم المتاحف، وإدارة التراث الثقافي. كما يمكنها أن تربط بين الأبحاث النظرية والتطبيقية من خلال التعاون مع المتحف المصرى الكبير، ليصبح المتحف بمثابة المعمل الحى للطلاب والباحثين. إنّ تكامل الرؤية بين المتحف والجامعة سيخلق بيئة فريدة يتعلم فيها الإنسان من الحَجَر، ويصغى فيها إلى صوت التاريخ وهو يهمس بمستقبلٍ أكثر إشراقًا.
إنّ إنشاء جامعة لعلوم المصريات ليس حلماً بعيد المنال، بل ضرورة وطنية وإنسانية فى هذا التوقيت. فمصر التى علّمت العالم الكتابة والفكر والفن والهندسة، قادرة اليوم على أن تعلّمه من جديد كيف يبنى حضارةً تقوم على العلم والجمال والإنسان. سيكون لهذه الجامعة دورٌ فى توطيد الهوية، وتعميق الانتماء، وتجديد الخطاب الثقافي، وبناء جسور من التواصل بين الشعوب على أساس من الاحترام والمعرفة المشتركة.
إنّ الحضارة المصرية القديمة ليست ماضياً يُروي، بل مستقبل يُكتب. والمتحف المصرى الكبير هو الصفحة الأولى فى هذا المستقبل، أما جامعة علوم المصريات فهى الكتاب الذى سيُسجّل فيه فصول المعرفة الجديدة التى ستهديها مصر للعالم مرة أخري. لذا فإن الإعلان عن بدء دراسة مشروع هذه الجامعة سيكون خطوة تاريخية تليق بعظمة هذا الوطن وتاريخه، وتعبّر عن رؤيته فى أن يكون دائمًا فى مقدمة الأمم التى تبنى الإنسان قبل البنيان، وتؤمن بأن العلم هو الامتداد الطبيعى للحضارة.
بهذه الروح، وبهذا الإيمان، تصبح جامعة علوم المصريات ليست فقط حلمًا أكاديميًا، بل رسالة حضارية تُجدد حضور مصر فى ضمير الإنسانية، وتؤكد أن ما بدأه الأجداد منذ آلاف السنين لا يزال مستمرًا فى أبنائهم الذين يكتبون فصول الحضارة الحديثة بوعيٍ عميقٍ بجذورهم وإيمانٍ راسخٍ برسالتهم.









