(بعين شاعر 2-1)
بقلم / جمال فتحي
يقدم ديوان “فلسطينياذا” للشاعرعلى العامري فلسطين كسردية تقهر المحو وتهزم النسيان، سردية يبقيها حية كل ما فيها ومن فيها، ويذهب بنا الشاعر وعنوانه الذي يتناص مع ” إلياذة” هوميروس باتجاه الملحمية بمعنى أنه يتماس في طرح تجربته من أكثر من اتجاه مع ” الملحمة” وإن كانت الإلياذة وغيرها من الملاحم الشعرية في تاريخ الإنسانية قد نجحت في سؤال البقاء واختبار الخلود لعوامل مختلفة ومتعددة منها: موضوعها وصراعاتها وأبطالها فإن الصمود الأسطوري لفلسطين وأهلها ومقاومة الشجر والحجر والذي جسده الشاعر بسلاسة فائقة ويقين راسخ ترشح فلسطينياذا” لخلود مماثل..
يقدم لنا العامري في الديوان تجربة شعرية/ إنسانية بامتياز تتجاوز الكثير مما عرفناه من الشعر المعني بقضية الوطن بشكل عام وبشكل خاص من الشعر النابع من قضية- أية قضية- مدافعا عنها و منحازا لها ، وكتابة العامري كتابة ضد المحو، كتابة تعانق البقاء والخلود، كتابة تروض التلاشي والفناء وتجره كقط أليف.. والمدهش أن يتحقق هذا دون مبالغة شعرية وبعيدا عن الصخب والصراخ والتعبيرات الحماسية أو الزاعقة والمتكلفة .. يتحقق بنبرات شعرية هادئة وعميقة ويقينية ولعل اليقين الكبير الذي يكتب به الشاعر و النابع من عدالة وصدق القضية وإنسانيتها ومن قبله إحكامه لأدواته الشعرية وتوظيفها بعمق ما أنتج هذا الهدوء والرسوخ في التعبير حتى عند الحديث عن أمور مصيرية وجارحة.. يقول العامري:
في أرض الدحنون، حكايات يرويها حجر ينبض
الضوء الأثري على مر الأزمان،
حكايات تسردها الجدات، الأسماء، عيون الماء، و زهر الليمون
حكايات يرويها حجر العقد بقنطرة البيت
ويحكيها المنجل والممشى وطواحين القمح ومفتاح البيت..
وصقر حوام في المعني..
…
ترويها القبب الذهبية، الأجراس،
ترويها الأنهار، مقامات الصوفيين، جرار الزيت
وعشابات الشمس..
.. و ..
وما يفعله العامري الذي ولد في” وقاص” وعاش في “القليعات” قبل تهجير عائلته هو استدعاء لفلسطين، المحفورة في الذهن والوجدان والمنقوشة على جدران الروح استدعاء هادئا وواثقا، استدعاء لوطن لم يبرح الضلوع من الأساس، استدعاء متنوعا و سرد موزون وواع لمفردات بحمولاتها ودلالاتها، ومعان بظلالها، وتفاصيل وأماكن وأزمنة وذكريات وحكايات تشكل جميعها عناصر اللوحة التي تبدو بعد انصهارها واكتمالها أنها هي.. “فلسطين”

ولأن الديوان أعلن مبكرا عن نفسه الملحمي فكان من الطبيعي أن يميل الشاعر نسبيا إلى السرد لكنه السرد الملحمي الذي تتطلبه الوقائع والحكايات.. السرد الذي لفت إليه أرسطو في حديثه عن الشعر الملحمي الذي ينقل فيه الشاعر الواقع أو يحاكيه لكنها المحاكاة التي تحفظ للشاعر بصمته ويقدمها من منظوره الخاص، وحكايات أرض “الدحنون” لا حصر لها، أرض فلسطين المروية بدم الشهداء والمناضلين والمقاومين ،أرض شقائق النعمان وطائر الحسون.. و المنجل/ طواحين القمح/ القبب الذهبية/ الوديان/ قشر الرمان/ إطارات اللهب / قصائد درويش/ الكوفيات/ طيور الحجل البني/ ” اليرغول/ أطباق القش/ أغاني الدلعونة.…إلى آخر تلك المفردات والتراكيب التي تستدعي بذكرها عشرات بل مئات الحكايات الجانبية.. كما تنثر بحضورها في الديوان عطر فلطسين وعبقها وروحها التي لا تشيخ
؛ فإطارات اللهب مثلا تستدعي مشاهد نحفظها عن ظهر قلب للشباب والأطفال المقاومين بالحجر متسلحين بالشال الفلسطيني والانتفاضات التي أرقت الاحتلال وأرهقته ، وقصائد درويش تستدعي المقاومة بالكلمة الباقية على وجه الزمان والتى تنتصر للمكان والإنسان وكذلك كل عنصر يحكي سردية صغيرة تتضافر وتشتبك حتى تتبدى فلسطين بشحمها ولحمها وتتجسد في الذهن والعقل والوجدان، تلك فلسطين التي نعرفها ونحفرها في قلوبنا ويرسخ وجودها الشاعر بهدوء الواثق من البقاء في النهاية،.. ..يتحدث بها وعنها وباسمها وباسم الجماعة كما تقتضي طبيعة الملاحم فيقول مثلا:
نحن الحكاية أرضها ونشيدها
نحن الحكاية ماؤها وهواؤها
نحن الحكاية روحها وفصولها
نحن الحكاية بدؤها ومسيرها
نحن الحكاية نجمها وظلالها
نحن الحكاية تبرها وترابها
وهنا الحكاية كلها
وهنا فلسطين التي في دفتر التاريخ
وهنا فلسطين التي رسمناها على لوح الشموس
كما رسمناها على حجر
كحلنا بها الوديان والأسماء
كحلنا بها عين الزمان
هذه خريطة أرضنا من مائها لمائها
وفي ” فلسطينياذا” يسرد شاعرنا ويرسم ويشكل بالمفردات و التراكيب والصور الشعرية البسيطة والمركبة وبالمفارقة والتناص وكل ما يتيح له الشعر من قدرات وأساليب وأدوات وما تتيح له فلسطين وإرثها وطينها وملامح هويتها وتاريخها العميق
يقول مثلا :
“طار القطا بين الجبال
وحط ليل في التخوم
وبين جبلين ارتقى قمر أليف كالرغيف”
ويقول أيضا:
“نجمة تتدلى على شاهد قبر
وقت الغروب
ودمعة متحجرة للأبد”
وهنا تلعب الصورة الشعرية الرائقة دورها في قنص المعاني وتجسدها ببراعة والحقيقة أن العامري يعرف جيدا أين بالضبط يعلق صورته الشعرية وفي أى ركن من جدار الديوان وفي أى برواز يضعها كي تضيء الروح! .. وإذا كان النقاد يصفون الصورة الشعرية بأنها ” القوة المطلقة” وبعضهم يصف بعض الصور الشعرية بأنها “زلازل” فقد قدم شاعرنا الكثير من البراهين على ذلك ..إذ نسج صورا شعرية متفاوتة بعضها بسيط وبعضها مركب لكنها كافية بما تحمله من طاقة شعرية وقدرة على التجسيد والإحالة.. لتكون صناعة الصورة الشعرية أحد رهانات الديوان وخصائصه المائزة.

وفي ” فلسطينياذا” طوال الوقت ترتج روحك من وقع هذه الصور المتتابعة بإحكام.. وتتوالى الحكايات والالتفاتات إلى لقطات عابرة أو ذكرى متوطنة في الروح أو تفصيلة تشكل بمجموعها في النهاية وجوها مختلفة لمعنى واحد..
يقول مثلا:
“في الخط الأندلسي بباب مغاربة القدس
يميل الضوء على ظل ذهبي بين الأقواس”
وهنا يتذكر العامري:
“كان جدي يوقد النار على مهل
يدق البن في المهباش
في ظل العريشة كان جدي
يوقظ الصبح
ويسقي كرمة الدار
ويمشي
مثل برق
في حقول الذكريات”
ويصف:
تحت الدالية الممتدة قدام الدار الطينية
في صيف قليعات، على خط الزلزال
عناقيد من العنب البلدي
مدلاة
مثل
ثريات
في سقف سماء خضراء تمام
**
ويستدعي الماضي :
“حين توفى عبد الناصر
مرت صاعقة معتمة
فوق مضافة جدي إبراهيم
رأيت دموعا
تقطر
من عين الباب الخشبي
وفي صمت مكتمل
جدي رفع الراية السوداء
على سطح الدار”
وهكذا فإن كل مفردة وكل صورة وكل لقطة أو ذكرى أو حكاية – وحكايات فلسطينياذا لا تنتهي- أو كما يقول: ” حكايات في كل مكان / حتى العزلة بين جبال الصمت”
بطول الديوان وباتساع الصورة وبامتداد الحكي يرصد القارئ صورة فلسطين حية ومكتملة واللافت أن شاعرنا.. يرسم بهدوء ويحفر بعمق ويوثق ويرسخ صورا ومشاهد،
ربما تلاشى واندثر بعضها أو تآكلت حواف بعضها بفعل الاستيطان ومحاولات اجتثاث الهوية المتعمد.. لكن هيهات فكأن الشاعر أخذ على عاتقة بشكل ضمني توثيق الوطن صورته وحقيقته ،إجماله وتفصيله وكأنه لا يعبر فقط عن وطن يسكن وجدانه بل يسعى كذلك إلى حفر صورته وتفاصيله كامله ضد الغياب أو التلاشي أو النقصان.. رغم إيمانه العميق بأن فلسطين سردية سرمدية لا نهاية لها
***
الديوان يقدم تجربة مقاومة موازية للمقاومة بالبندقية والرصاص ولا يقل تأثيرها عن السلاح، إنها مقاومة الكلمة الهامسة الهادئة الواثقة لكنها الجارحة الباقية، مقاومة لا تسفر عن دم وقتلى بل عن تفجير براكين الشجن والحنين الجارف و تعبئة جيوش لا أول لها ولا آخر من الأمنيات والذكريات والأحلام المؤجلة وعلى رأسها ( العودة).. ديوان يحفر فلسطين بكل ما فيها وما يحيل إليها من تفاصيل وأماكن وطقوس وملامح هوية ويرسم ويلون ويحدد خريطة فلسطين الخالدة مستدعيا كل مفردة وكل صورة وكل مشهد وكل معطى من معطيات الطبيعة وكل الحكايات الصغيرة والكبيرة التي تتعانق جميعا لتخرج لنا ” فلسطين” حية وباقية وتنتظر عودة الضوء بعد رحيل” العتمة وجنودها“
فالشاعر حين يحكي عن نهر الأردن مثلا يقول::
“كأن النهر كتاب
وكأن الماء قصيدة هذى الأرض
يسير النهر ويروي
جبل الشيخ أبي
وبلاد الشام أمي
والأنهار اشقائي
وأنا مشاء أبدي
لا العتمة توقفني
لا الحر يبددني
لا شيء يسد طريقي
في مائي ذوبت الوقت
وذوبت الصخر“
فهذا اليقين الذي يتحدث به النهر” لا العتمة توقفني/ لا شيء يسد طريقي” هو يقين كل ما على أرض فلسطين من شجر أو حجر من ماء أو جماد أو تراب والنهر هنا يتماهى مع الإنسان الفلسطيني.. الذي ” مات جده واقفا“ و الذي لا شيء يقهره وأنه ماض نحو الشمس” شمس فلسطين” فيمكنك أن تنسب هذا الحديث للإنسان الفلسطيني بكل اطمئنان.. الإنسان الفلسطيني الذي يتماهي مع كل مفردات ومعطيات فلسطين وزمانها ومكانها ..فعندما يقول العامري ” لا تتعب أشجار السرو أمام الريح” فأشجار السرو هى الإنسان الفلسطيني الذي لا ينحني وهى فلسطين ذاتها ..و سطور الديوان كلها حبلى بالأبواب والممرات التي تنتهي بك لمعني واحد.. كلمات دخلت صادفك” المعني ” وكما يقول: في كل مكان أثر يومض منذ قرون/ ولنا في كل مكان معني... وكل تلك التفاصيل والمعاني الصغيرة والكبيرة والصور والأماكن تنصهر في معني أكبر واحد هو ” القدس” كـ “عاصمة أبدية للمعني”.. وللصمود وجوه وأشكال وتجليات يمررها ويعرضها الشاعر برهافة وشاعرية على فيها من قوة وصلابة ويتساوى فيها كل ما في فلسطين من شجر وحجر، طفل أو امرأة، شاب أو عجوز .. فلنقرأ مثلا قوله:
“عروس تجلس تحت شجيرة لوز قدام الدار
تطرز ثوبا لم تكمله على مر السنوات
تطرز جزءا،
وتفك القطبة تلو القطبة ثم تعود وتعقدها
وتواصل تقمير الأيام
وتنتظر الغائب
قالت: سحبوه جنود العتمة
في يوم العرس
أسيرا مرفوع الرأس
وهنا تكمن سردية طويلة ومكررة وهى سردية كل أسير ذهب بلا موعد للرجوع وتنتظره عروسه وينتظره أهله يترقبون عودته فتجلس عروسه تطرز ” عودته بالإبرة والخيط” هكذا برضا وبساطة وبلا صراخ أو صخب لا لشيء إلا لأن الغياب صار طقسا والعودة يقين..
والحقيقة أن واقع فلسطين دائما وأبدا يعزز هذا اليقين فكلنا مثلا تابعنا مؤخرا زواج الأسير أكرم أبو بكر المحرر مؤخرا في غزة من زوجته التي انتظرته 23 عاما رغم أنه طلقها بعد الحكم عليه حتى لا يظلمها تاركا لها الحرية فاختارت أن تفي وتنتظر إلى آخر العمر واكتملت الأسطورة وخرج ليجدها منتظرة صابرة ليعيد الزواج بها من جديد وسط فرح عائلى غامر. ..وهى مجرد مثال على الوفاء الأسطوري المتجذر في هذه الأرض والذي يتكرر مرارا و دائما بعفوية وبلا صخب.. ويسجله الشاعر هنا كذلك ببساطة كأنه يلقى تحية الصباح رغم أنه يتحدث عن انتظار استثنائي ويقين أسطوري في العودة.
ولعل من الدلائل الواضحة جدا على غياب المبالغة الشعرية والبعد عن الصخب والصراخ هي مسألة استدعاء العدو المحتل وهو استدعاء أشبه أو أقرب إلى الاستبعاد والإقصاء لأنه في نظر الشاعر – وهي الحقيقة- لا يستحق شرف الخلود هنا في هذه السطور ويكتفي الشاعر بأن يصفه ” جنود العتمة” وهل بعد هذا الوصف من قسوة؟!! ..
وهو ذكاء فطري من الشاعر فالعدو دخيل على الأرض وعلى أهلها وغريب عنها ومن الطبيعي أن يغيب ذكره عن ” فلسطينياذا” التي هى صورة شعرية لفلسطين فكان حضوره عابرا وموسوما بالـ ظلامية أو كما قال” جنود العتمة” وعلى حد قوله: “ لم يخطر في البال أن العتمة تحتل الشمس”.. وهكذا يظل للعدو حضوره للضرورة عابرا جدا بعتمته اللافتة أما الحضور المهيمن بطول الديوان فهو لأرض الدحنون وكل ما يؤدي إليها ويعبر عنها ويجسدها.
إن كل ما تحكيه ” أرض الدحنون” وكل تلك الحكايات التي ” يتسلمها الحاضر عبر بريد الماضي“ كما يقول العامري.. تؤكد على ما يقوله شاعرنا أيضا ويقر به وهو ” أن هذا العدو سيسقط في المحو“ وأن ” الضوء سوف سيعود إلى أرض الضوء وإن طال كسوف المبنى” .









