شهدت مصر والعالم أمسية تاريخية مهيبة، تمثلت في الاحتفالية غير المسبوقة بمناسبة افتتاح المتحف المصري الكبير، بحضور فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي والسيدة الأولى انتصار السيسي، إلى جانب ملوك ورؤساء وولاة عهد ورؤساء حكومات ووزراء من 79 دولة حول العالم.
كانت المناسبة رسالة واضحة تؤكد أن مصر ليست فقط موطناً للحضارة التي وُجدت قبل التاريخ، بل هي لاعب دولي معاصر يفرض حضوره ويُحتفى به في أرفع المحافل العالمية. كما أن الاحتفال بهذا الصرح ليس مجرد استدعاء للماضي، بل إعلان حي عن حضور مصر في الحاضر وإيمان العالم بأنها أم الحضارات.
تزامن السلام والحضارة
لا يمكن أن نغفل عن الدور القيادي للرئيس عبد الفتاح السيسي الذي استطاع أن يجذب أنظار العالم إلى مصر في غضون أيام قليلة بحدثين تاريخيين مترابطين يحملان معاني السلام والحضارة معاً. ففي شرم الشيخ، أرض السلام، تم التوصل إلى اتفاق تاريخي لوقف إطلاق النار في غزة، وهو اتفاق رحب به العالم بأسره بوصفه خطوة جادة نحو إحياء السلام في المنطقة. وبعدها بأيام قليلة، دعا الرئيس السيسي ملوك ورؤساء العالم إلى افتتاح أكبر متحف لحضارة واحدة في التاريخ، ليؤكد أن مصر لا تحمل راية السلام فحسب، بل تقدم هدية جديدة للعالم تتمثل في هذا الصرح الذي يجسد عظمة الإنسان المصري وقدرته على البناء والإبداع.
الإطلالة الرسمية واللمسة الفنية
كانت إطلالة السيدة الأولى انتصار السيسي لافتة للغاية، إذ حملت قدراً كبيراً من الشياكة والوقار، في مشهد يعكس أناقة حفيدات حتشبسوت ونفرتاري. مثلت الإطلالة رسالة بصرية مفادها أن مصر التي تفخر بماضيها، تقدم نموذجاً أنيقاً للحاضر والمستقبل، وكانت رمزاً للأنوثة المصرية الأصيلة الممزوجة بالعراقة والحداثة.
تميز الحفل بأداء موسيقي عالمي المستوى قاده المايسترو المصري نادر ناجي، الذي أبدع في قيادة الأوركسترا، وقدّم توزيعاً جديداً لأغنية “أنا المصري”، في لمسة فنية جمعت بين الأصالة والحداثة، مؤكداً أن مصر تملك اليوم أدوات فنية قادرة على المنافسة في المحافل العالمية. كما تألق الموسيقار هشام مزيه في تأليف موسيقى الحفل التي جاءت مفعمة بالروح والهوية المصرية رغم طابعها العالمي.
رسائل التكريم والعمق الإنساني
من اللحظات التي تستحق التوقف أيضاً، بدء الحفل بكلمات مؤثرة لأربع شخصيات ملهمة لها تأثير كبير في مصر والعالم، وهم: الفنان فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق وصاحب فكرة المتحف، الدكتور خالد العناني وزير السياحة والآثار الأسبق والمدير العام لليونسكو حالياً، السير مجدي يعقوب رمز الإنسانية والعطاء، والناشط البيئي منير نعمت. كلماتهم أضفت على الافتتاح عمقاً إنسانياً ومعنوياً يليق بعظمة الحدث.
الإبهار البصري والهوية الوطنية
كان الجانب البصري مدهشاً بكل المقاييس، حيث تألق أداء فرقة الكروغرافيا في مشهد بدا وكأنهم “يرقصون على الماء”، في لقطة جسدت الانصهار بين الطبيعة والحضارة وبين الماضي والحاضر. كما برع المخرج في توظيف الإضاءة والعروض المرئية، خصوصاً عندما ظهرت المسلات المصرية مضاءة في عواصم العالم تزامناً مع لحظة الافتتاح في القاهرة، في إشارة رمزية إلى أن الحضارة المصرية كانت وما زالت منارة تُنير العالم.
حمل الحفل رسائل هوية عميقة، أبرزها إعادة الاعتبار للطفل المصري حسين عبد الرسول الذي كان له الدور الحقيقي في اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، إلى جانب هوارد كارتر، وهي إشارة رمزية تستعيد للهوية المصرية حقها التاريخي. كما كان ظهور الفنان النوبي أحمد إسماعيل في فقرة غنائية باللغة النوبية دليلاً على وحدة النسيج المصري وثراء التنوع الثقافي الذي تحتضنه أرض مصر.
ومن اللفتات البديعة أيضاً الدمج بين الابتهال الإسلامي والترانيم المسيحية في مشهد فني مهيب أكد على الوحدة الوطنية والتعايش الديني في أبهى صوره. وجاءت مشاركة أبطال مصر الرياضيين إضافة مؤثرة تؤكد أن مصر لا تنسى أبناءها، وأن قوتها الناعمة تمتد لتشمل الفن والرياضة والهوية.
كما أضفى ظهور النجوم كريم عبد العزيز ومنى زكي والفنانين الشباب هدى المفتي وأحمد مالك وسلمى أبو ضيف وأحمد غزي روحاً متجددة على الحفل، بينما شاركت العازفتان ابنتا الفنان الكبير عبد الرحمن أبو زهرة في أداء موسيقي رائع أعاد التأكيد على أن الفن المصري متوارث ومتجدد.
الخلاصة والتحدي
وبرغم أن الحفل بدا موجهاً في كثير من تفاصيله إلى الجمهور العالمي، فإن ذلك لا يُنقص من قيمته، بل يعكس رغبة مصر في أن تقدم تراثها للعالم بلغة يفهمها الجميع. ومع ذلك، يبقى التحدي في تحقيق التوازن بين الرسالة الموجهة إلى الخارج وبين الحفاظ على هوية الداخل وروح الانتماء الوطني.
في المحصلة، كان الافتتاح حدثاً مهيباً يليق بعظمة مصر وتاريخها، جمع بين الموسيقى والفن والتاريخ في لوحة حضارية نادرة. لقد نجح المتحف المصري الكبير في أن يكون ليس فقط بيتاً للآثار، بل رمزاً لعصر جديد من الحضور المصري في الوجدان العالمي، ورسالة متجددة بأن مصر هي الأصل، ومن عبقها تستمد الحضارات بريقها.









