على مر السنين يناقش الكتاب والباحثون والمنظرون فى الإعلام قضية جدلية وهى الحياد فى الإعلام، هل حقا هناك إعلام محايد؟ أم أن هذا شعار مثالى نتمناه ولا يتحقق؟.
فى الواقع كل الإعلام بمختلف صنوفه وأقصد هنا التعميم بـ « كل» يتأثر بعوامل عدة تنعكس على تناوله للقضايا، ويكون التوازن أو الانضباط هو أقصى ما نتمناه، وبالطبع الانضباط والتوازن لا يساويان الحياد.
لم تكن الصحافة أبدا بمعزل عن الصراعات السياسية والحروب، وفى حالات كثيرة كانت جزءاً من الحرب يستخدمها أطراف الصراع بشكل أو بآخر، وهذا يدعم فرضية أنه لا حياد فى الإعلام، ففى حرب غزة على سبيل المثال وعلى مدار العامين اتخذت بعض الصحف العالمية موقفا واضحا مع أو ضد طرف من الأطراف وفى هذا السياق أعلن مؤخرا أكثر من 300 من الشخصيات المعروفة الذين يشاركون بالكتابة فى صفحة الرأى بصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية مقاطعتهم للكتابة فى الصحيفة إلى أن تُصلح سياساتها التحريرية، التى وصفوها بأنها منحازة ضد الفلسطينيين.
المثير للدهشة أن هذا الخبر ورد قبل يومين فى صحيفة هآرتس الإسرائيلية اليسارية التوجه، لتثبت أنه ليس معنى أنها صحيفة إسرائيلية أن تتبنى السردية الإسرائيلية المغلوطة فى حرب غزة، بل هاجمتها على طول الخط.. ورد فى تقرير هآرتس أن الرسالة أصدرها ائتلاف من منظمات، بينها: «كتّاب ضد الحرب على غزة» تأسس بعد هجوم السابع من أكتوبر و«حركة الشباب الفلسطينى»، و«تحالف حق العودة»، و«الطلاب الوطنيون من أجل العدالة فى فلسطين»، و«الاشتراكيون الديمقراطيون فى أمريكا» الرسالة حملت عنوان «الإبادة الجماعية ليست مسألة رأى»، وجاء فيها: «مثلها مثل أى مصنع أسلحة، تعدّ وسائل الإعلام جزءا من آلة الحرب، إذ تسهم فى إنتاج الإفلات من العقاب والعنصرية التى تمكّن الحرب وتغذيها».. ووصفت الرسالة «نيويورك تايمز»، بالصحيفة الأمريكية الأكثر تأثيرا فى تشكيل الرأى العام الأمريكى فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، الموقعون على الرسالة بينهم النائبة الأمريكية رشيدة طليب، والكاتبة الأيرلندية سالى رونى، والممثلون هانا إينبايندر، وهارى نيف، وإنديا مور والأكاديمى المتخصص فى شؤون الشرق الأوسط رشيد الخالدى، والمبلغة فى ويكيليكس تشيلسى مانينج، وعضو البرلمان الأوروبى ريما حسن، والطبيب والكاتب الكندى غابور ماتيه، والناشطة البيئية غريتا تونبرج، والكاتبتان صوفى كيمب وروبى كور، وقالت كاتبة التقرير ليندا دايان إن هذه الشخصيات تعهدت بعدم الكتابة فى الصحيفة إلى أن تلبّى الصحيفة مطالبهم ووقف تحيّزها ضد الفلسطينيين، وسحب تقريرها المتعلق بالعنف الجنسى فى هجمات السابع من أكتوبر المنشور عام 2024 بعنوان «صرخات بلا كلمات»، الذى تناول مزاعم استخدام حركة حماس للعنف الجنسى فى هجمات السابع من أكتوبر وقال الموقّعون إن التقرير «ثبت زيفه»، وشبهوه بتغطية الصحيفة عام 2004 لقضية «أسلحة الدمار الشامل» فى العراق، التى تبيّن لاحقا أنها غير صحيحة وطالب الموقعون الصحيفة بنشر افتتاحية تدعو إلى فرض حظر أمريكى على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل على أن تستخدم هيئة التحرير فى الصحيفة نفوذها «لدعوة علنية إلى وقف نقل الأسلحة الأمريكية إلى إسرائيل».. ورغم أن هيئة التحرير كانت قد دعت فى يناير إلى وقف إطلاق النار، فإن الرسالة رأت أن ذلك «غير كافٍ لوقف الدمار فى غزة»، مضيفة أن «فرض حظر على الأسلحة هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق وقف إطلاق نار دائم»..
منذ أن بدأت إسرائيل حرب الإبادة ضد غزة، عمدت نيويورك تايمز إلى التعتيم والتبرير والإنكار الصريح لجرائم الحرب التى ارتكبها المحتل، مواصلة بذلك نهجها المستمر منذ عقود كمنبر للكيان الصهيونى.
الشاهد فى هذه الرسالة هو التفات عناصر من الداخل لسياسة التحيز الفجة التى من الممكن أن تتبناها وسيلة إعلامية بعينها تجاه قضية دولية، لذلك شملت مطالبهم مراجعة شاملة لغرفة الأخبار بصحيفة نيويورك تايمز بهدف التحقيق فى «التحيّز ضد الفلسطينيين»، ووضع معايير تحريرية جديدة لتغطية شئون المنطقة.
وتصحيح عقود من التغطية المنحازة والعنصرية تجاه فلسطين عبر مراجعة وتعديل دليلها التحريرى وأساليبها فى الاستعانة بالمصادر والاستشهاد، وكذلك سياسات التوظيف لديها، مع الدعوة إلى الامتناع عن توظيف الصحافيين الذين خدموا فى الجيش الإسرائيلى.
أخيرا: الرسالة من هذه الرسالة هى أن المرسل والمتلقى بات لديهما نفس الحس عما إذا كانت وسيلة الإعلام تكذب أم تنقل الحقيقة.









