هى ليست مجرد عبارة تثير الحماس أو تُطلق فى لحظة انتشاء وطني، بل هى خلاصة تجربة تمتد فى جذورها إلى أعماق التاريخ، إلى حيث قامت أول حضارة عرفها الإنسان على ضفاف نهر لا يعرف التوقف، نهر يجرى فى عروق الزمن كما تجرى الحياة فى جسد الأرض. الحضارة المصرية القديمة، تلك التى لم تكن مجرد جدران حجرية مزخرفة أو معابد شامخة تروى أساطير الملوك، بل كانت ولا تزال شاهدة على عبقرية الإنسان المصري، الذى صاغ من الصخر فناً ومن الطين حضارة ومن الصمت نطقا خالداً. حضارة تقول للعالم فى كل عصر: هنا بدأ المجد، وهنا وقف الإنسان فى مواجهة الطبيعة والعدم فانتصر.
ولأنها مصر، فإن التحدى لم يكن يوماً خياراً بل قدر. فالمصرى حين يُدعى إلى ميدان المجد لا يتحدث كثيراً، بل يعمل، يصنع، ويترك أثره ليشهد عليه العالم. بالأمس فقط شاهدت الدنيا بأسرها احتفال المتحف المصرى الكبير، ذلك الحدث الذى تجاوز مفهوم الافتتاح إلى معنى الانبهار ذاته. لم يكن مجرد افتتاح لمبنى ضخم يضم آلاف القطع الأثرية، بل كان مشهداً حضارياً متكاملاً، يربط الماضى بالحاضر، ويضع المستقبل فى موقع الاحترام أمام عظمة ما تحقق. من اللحظة الأولى لذلك الاحتفال، كانت العيون فى كل بقاع الأرض شاخصة نحو القاهرة، نحو الأهرامات التى ظلت شامخة تنتظر هذا اليوم لتقول: ما زالت مصر قادرة على أن تُدهش العالم كما أدهشته من قبل.
كم كان حافظ إبراهيم صادقاً حين كتب قصيدته الخالدة مصر تتحدث عن نفسها، تلك التى خلدتها كوكب الشرق أم كلثوم بصوتها الأيقوني، لكنى اليوم أجد نفسى أقول له: عفواً حافظ بك، فمصر اليوم لا تتحدث عن نفسها، بل يتحدث عنها العالم كله. من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، كانت الصحف، والشاشات، والمواقع، كلها تكتب عن المتحف المصرى الكبير بوصفه أعظم مشروع ثقافى فى القرن الحادى والعشرين. هذا الاحتفال لم يكن مجرد عرضٍ فنى أو مناسبة رسمية، بل كان إعلاناً جديداً عن ميلاد مصر الحديثة، التى تمزج بين عبقرية الماضى وذكاء الحاضر وقوة المستقبل.
إن المتحف المصرى الكبير ليس حجراً على حجر، ولا مجرد تحفة معمارية، بل هو فكرة تتجاوز المكان إلى المعني. هو رسالة من المصريين إلى الإنسانية كلها بأن الحضارة لا تموت، وأن من بنى الأهرامات قادر على أن يبنى ما هو أعظم فى كل عصر. فالمتحف الذى يجاور الأهرامات ليس مصادفة جغرافية، بل امتدادٌ طبيعى لتاريخٍ لا يعرف الانقطاع. هناك، حيث تتقاطع الأزمان، يقف المتحف كجسر بين ماضٍ خالدٍ ومستقبلٍ واعد، كأنه يقول: هنا ترقد ذاكرة العالم، وهنا يُكتب الغد.
ولأن مصر تعرف كيف تستخدم قوتها الناعمة كما تعرف كيف تبنى قوتها الصلبة، فإن افتتاح المتحف المصرى الكبير لم يكن مجرد حدث ثقافى بل كان استعراضاً حضارياً للقوة. كما يفتتح القائد قاعدة محمد نجيب العسكرية ليعلن جاهزية بلاده للدفاع عن أرضها، افتتح المصريون قاعدتهم الحضارية فى المتحف المصرى الكبير ليعلنوا أن قوتهم تمتد من الميدان إلى المتحف، من السلاح إلى الفكرة، من الجدار إلى الجدارية، من الحجر إلى الحلم. إنها مصر التى لا تُرى فقط فى حدود جغرافية، بل فى مدى تأثيرها الممتد فى ضمير البشرية.
واليوم، ونحن نتابع صدى هذا الحدث فى مقالات وتغطيات عالمية غير مسبوقة، ندرك أن العالم كله قد التفت إلينا بإعجاب واحترام. لم يكن ذلك بفضل حملة دعائية أو ميزانية ضخمة، بل لأن الفعل المصرى حين يكون صادقاً يفرض نفسه بلا وساطة. العالم لم يُدهش من جمال المتحف فحسب، بل من التنظيم، ومن الفكرة، ومن القدرة على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين العراقة والإبهار التقني. لقد شاهدوا مصر التى تُبدع، مصر التى لا تكتفى بأن تروى تاريخها بل تكتبه من جديد بأدوات القرن الحادى والعشرين.
حين نقف اليوم أمام المتحف المصرى الكبير، لا نراه مجرد بناء بل نرى انعكاس وجوه المصريين عبر العصور، من الفراعنة إلى المحدثين. نرى فى عيونهم تلك اللمعة التى لا تخطئها عين، لمعة الكبرياء والعزة، لمعة من يعرف أنه ينتمى لأرضٍ لم تعرف الانكسار يوماً. فكما خرجت مصر من كل محنة أقوي، خرجت من كل تحدٍ أكثر إشراقاً. واليوم وهى تقدم للعالم متحفها العظيم، تقول للعالم مرة أخري: كفونى الكلام عند التحدي، فإن الفعل أبلغ من القول، والإنجاز أصدق من الشعارات.
فى لحظة كهذه، يدرك المصرى أنه ليس مجرد ابن وطن، بل وريث حضارة ومسئول عن استمرار رسالتها. المتحف المصرى الكبير لم يُبنَ فقط ليُعرض فيه ما مضي، بل ليُذكّر كل جيل بما يمكن أن يُنجز إذا صدق الإيمان والعزيمة. إنها لحظة انتصار ثقافى توازى انتصاراً عسكرياً، ولحظة اعتزاز توازى ألف خطاب. فمصر لا تحتاج من يتحدث عنها، لأنها ببساطة تتحدث بلغات العالم كله عبر إنجازاتها، عبر أثرها، عبر تلك القوة الخفية التى تسكن ترابها وتنبض فى قلوب أبنائها.
نعم، كفونى الكلام عند التحدي، فمصر حين تتكلم تُدهش، وحين تصمت تُبهر، وحين تعمل تُغيّر ملامح التاريخ. ومن المتحف المصرى الكبير إلى آخر مشروع يضيء أرض الكنانة، تظل الحقيقة ثابتة لاتتغير: هذا بلد لا يعرف المستحيل، ولا يرضى إلا بالمجد









