كل ما يجمع هؤلاء حبهم الشديد لمهنة التشخيص على حساب مؤهلات عليا.. وربما وظائف كانت كفيلة بأن تضمن لهم الحياة المستقرة وكلهم أصحاب خلفيات ثقافية.. وبحثوا عن الخبرة حتى فى البدايات الأولى تعلموا ممن سبقهم وعلموا من جاء بعدهم ومن علامات الممثل الكبير فى فنه وليس فى سنه أنك تحاصره فى دور بعينه ولأنه لا يملك رفاهية الرفض أو الاختيار يقبل من أجل الاستمرار ولكنه يخلق من المساحات الصغيرة إطلاقة مدهشة لا يمكن للمتفرج أن يتجاهلها أو ينساها.
اخترت هؤلاء وقد أردت أن أضرب بهم الأمثال هكذا بدون مناسبة أو «تريند» طالهم.. فتحولت الأبصار تبحث عنهم وهم رغم الغياب فى حالة حضور دائم من خلال أعمالهم التى تعرض هنا وهناك بشكل يومى فكلهم أصحاب أرصدة هائلة فى المسرح والسينما والإذاعة والتليفزيون.. وكأنهم ولدوا فقط من أجل التمثيل لنا وليس علينا.. أنفقوا العمر والصحة والاهتمام.. فحصدوا جائزة التقدير الكبرى من متفرج لا يقبل الواسطة أو المحسوبية ولا يشارك فى حفلات الطبل والزمر التى تنفخ فى أصحاب مواهب قليلة أو معدومة فإذا بهم بالونات سرعان ما ينكشف حجمها الحقيقى مع أول دبوس.. أو اختبار حقيقي.
اسأل عن «الغندور»
صاحب وجه لا يمكن أن تتجاهله أو تنساه أو تعبره دون أن يستوقفك لأنه يشبهك ويشبهني.. بدون مواد حافظة أو ألوان صناعية.. بدأ على مسرح التليفزيون وتخرج فى معهد الفنون المسرحية.. أحبه الرئيس أنورالسادات وكرمه الرئيس مبارك.. ولأنه عرف أسرار لعبة التشخيص انتدبه المعهد ليكون أستاذاً لمادة التمثيل العملي.. وهو ما أوصله أيضاً إلى إدارة الثقافة الجماهيرية لكى يعيش أكثر بين الناس ولا ينفصل عنهم وقد تولى أيضاً إدارة المكتب الفنى لوزير الثقافة.. وفى مسابقات أساسها الحياد والنزاهة تم اختيار عمك الغندور كأحسن ممثل عام 62 ثم تكررذلك عام 82.. أرجوك راقبها فى أعمال من نوعية «خان الخليلي» و»الكرنك» و»سواق الأتوبيس» و»المال والبنون» و»عصفور النار» و»عودة الروح» و»محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم» و»هو وهي» و»سنبل» و»زوجة رجل مهم».
إنه الرجل الذى بدأ رحلته مع الفن بفيلم موعد مع إبليس وأنهاها بأحزان نوح.
عاداته وتقاليده
فى أوائل ظهور التليفزيون عام 1960 جاء عبدالحفيظ التطاوى إلى الشاشة الصغيرة يسعى من المسرح.. وسبقها دراسة الحقوق.. فأصبح فى الوسط الفنى نموذجاً لرجل يعرف ما له وما عليه أى كما نقول بالبلدى «الحق والمستحق».. وهذه نوعية من الناس يكون همها الأكبر فيما تعمله.. لاشلة ، ولا علاقات عامة ولا همبكة.. ولهذا يصبح الناجح خالصا وشريفا ونقيا والذين اعتبروا أن مزايا عمك عبدالحفيظ التطاوى أن ابنته كانت وزيرة.. وهو أمر غير صحيح ولن يضيف إليه أبداً لأن اسمه يكفيه وتاريخه الذى صنعه بموهبته فقط واعتماده على دراسته وثقافته وبساطته.. وهو رائد المسرح الحر.. وأحد أعمدة هذه الفرقة التى تحولت إلى مدرسة تخرج منها عشرات النجوم.. وشكل مع عقيلة راتب وهدى زكى ثلاثى برنامج عادات وتقاليد وقد كانت العائلات تنتظره ولعب فيه دور الشيخ «سنطاوي» وكان عبارة عن محاضرات درامية لطيفة وظريفة فى الأخلاق والتربية وأشهر ما قال فيه: «ناعسة يا همى الكبير» والمسلسل كان يكتبه عبدالله بركات ويخرجه حمادة عبدالوهاب وكانت عقيلة أو حفيظة هانم تختتم كل حلقة بجملة «توبة والنبى توبة» ومن العلامات التى بصم فيها عبدالحفيظ أو عم «نوال» التطاوى أول وزيرة للاقتصاد فى حكومة عاطف عبيد فهى ابنة أخيه عبدالمنعم.. وهذا فقط من باب العلم بالشيء.. لأن الناس تذكر الفنان أكثر مما تذكر الوزير إلا إذا كانت له ريادة مثل الدكتورة «نوال».. وأظنها تحفظ جيداً تاريخ عمها المحترم فى أعمال من نوعية «زقاق المدق» و»كعبلون» و»على بك مظهر» و»الناس اللى تحت» و»يوميات ونيس» و»هو وهي» و»برج الحظ» و»لحم رخيص» و»عذراء مكة» و»الأرض» و»البغبغان» و»اللعب مع الكبار» و»جمهورية زفتي» و»عمر بن عبدالعزيز» وهى حصيلة كبيرة تقترب من مائتى عمل أو يزيد.
شروق بلا غروب
عندما عرض عليه المخرج كمال الشيخ دور الطيار الذى يحب سعاد حسنى رفضه لأنه يقتضى أن «يبوس» السندريلا، وهو ما رفضه تماماً واحترم المخرج رغبته، ورشحه لدور ضابط البوليس الوطني.. أحدثكم عن محمد الصغير الدفراوى أو الكبير حقاً.. ابن كفر الشيخ وبلديات محمد رشدى الذى درس الآداب ثم انطلق إلى معهد الفنون المسرحية، وكانت عينه دائما على أدوار قد تكون بسيطة أو صغيرة من حيث حجمها، ولكنها كبيرة فى محتواها وتسمح له أن يتحرك فيها بقدراته الخاصة، فتبدو كما لو انها «البطولة المطلقة» التى لا تدل دائما على تفوق صاحبها، فقد يسحب البساط من تحت أقدامه.. ممثل يظهر فى مشهد واحد فقط وحصلت فى أكثر من عمل لو تشاهدون بوعي.
كان عادل إمام يحبه ويحترمه ويستعين به فى أغلب أعماله، لأنه يعرف قدره ونزاهته وقيمته، وأنت بالتأكيد لا تجادل فى هذا إذا كنت قد شاهدت له على سبيل المثال لاالحصر «عين الحياة، الإرهابي، عمارة يعقوبيان، رأفت الهجان، الحاج متولي، الإمام المراغي، النوم فى العسل، الطريق إلى إيلات، عفاريت السيالة، ذئاب الجبل، التجربة الدنماركية، الأيام، دموع فى عيون وقحة، عيون الصقر».
الدفراوي، فنان وإنسان عاش شامخاً ومات كذلك.
بطعم المانجو
نال شهرته على كبر وقد اقتربت منه كثيراً فى رحلة جمعتنى به إلى العراق لستة أيام، رأيت فيه أن إنسانيته لا تنفصل عن فنه، وهو خريج كلية الآداب ابن الإسماعيلية الذى كنت أداعبه بأنه «فنان منجاوي»، وقبلها عرفنى عليه أكثر وكلمنى عنه بلدياته وصديق عمرى الفنان محمود عامر، فلما قابلته وجهاً لوجه انطبق القول على الفعل، فأحببت فيه أنه صنع نفسه أيضا مثل غالبية أبناء جيله بجهده وصبره وموهبته وثقافته، كانوا ينظرون إلى الشغلانة بعين الحب، ويأملون لها الكثير.. لكن للوسط الفنى دائما وأبداً حساباته الخاصة، ولأنهاأرزاق، يأتى إليه العمل من حيث لا يحتسب أو ينتظر أو يتوقع.
الدكتور الفلاح
دائماً يعطيك وجهه المنحوت بأنه الفلاح أو العامل أو المواطن الغلبان المكافح، وتم سجنه فى هذا الإطار لا يفارقه إلا نادراً، ولكنه استطاع أن يحطم قضبان سجنه هذا ويقول للناس هنا ممثل عبقرى كما وصفه يوسف شاهين، وهو الحاصل على الدكتوراة من روسيا فى الإخراج، لكن التمثيل أخذه واستولى عليه ولم يمنحه الفرصة لكى يقدم نفسه للجمهور كما ينبغى وكما يستحق، أكلمكم عن «أبوالفتوح عمارة» وقد رأيتموه فى «رأفت الهجان، البخيل وأنا، يوميات ونيس، ليالى الحلمية، دموع فى عيون وقحة، أحلام الفتى الطائر، فتوة الناس الغلابة» وعشرات الأعمال السينمائية والمسرحية والتليفزيونية وهو شقيق الفنانة فاطمة عمارة التى شاهدتموها فى فيلم «الأرض» مع نجوى إبراهيم، وقد هاجرت إلى أمريكا مع زوجها الإعلامى الكبير عباس متولي.
إنهم كثرة
النماذج التى قدمتها هذه المرة هناك الكثير منها عبر عصور الفن المختلفة، نحتاج أن نقف فى كل مرة أمام مجموعة منهم، بعيداً عن أخبار النميمة والهيافة، لأن هؤلاء هم «ملح الفن» أو قطاع الشغيلة، دونهم لا يمكن أن تظهر الأعمال.. أتمنى أن أفعل ذلك مع وجوه معروفة صنعت نجاحها بنفسها.









