حين يرفع الإنسان عينيه إلى السماء، يرى فيها ساحة الإبداع الإلهى الذى لا يحدّه خيال. هناك، حيث يحلّق صقر الشاهين فى عليائه، تتجلّى الدروس التى لا تُكتَب فى كتب، بل تُقرأ بالعين والقلب. إنه أسرع الكائنات الحيّة على وجه الأرض، يهبط من عليائه بسرعة تتجاوز ثلاثمئة كيلومتر فى الساعة، متناسق الحركة، متوازن الجناحين، كأنما وُلد من الريح نفسها. جسده انسيابٌ تام، وريشه يلتفّ بدقةٍ تحفظ له توازنه وسط العاصفة، وعيناه تُدركان الفرائس قبل أن تدركها الأرض نفسها. كل ما فيه يهمس بسرٍّ واحد: أن الخلق حين يتقنه الله، يصبح الجمال طريقًا إلى العلم، والعلم سبيلا إلى الإيمان.
لقد نظر المهندسون إلى الشاهين طويلاً، وتأملوا فيه كما يتأمل الشاعر معناه الخفي. وجدوا فيه ما لم يجدوه فى المعادلات؛ وجدوا السرّ فى البساطة، والعبقرية فى الطبيعة. حين أرادوا تصميم طائرةٍ تتخفّى فى السماء، لا تراها الرادارات، ولا تُمسكها العواصف، لم يجدوا مثالًا أعظم من ذلك الطائر الذى يخترق الريح فى صمت، ويتنقّل بين الغيوم دون أن يترك أثرًا. ومن هنا وُلد الإلهام الذى قاد إلى تصميم الطائرة الشبحية B-2 Spirit، الطائرة التى تشبه فى مظهرها ومغزاها انحناءة جناحى الشاهين فى لحظة الانقضاض. كلاهما جسمٌ واحد وجناحان يندمجان فى خطٍ انسيابي، وكلاهما يختصر فكرة الوجود فى معادلة بسيطة: أقلّ مقاومة، أكثرُ انسيابًا، أعمقُ أثرًا فى الفضاء.
تقول الدراسات إن نسبة التشابه فى البنية الانسيابية بين الشاهين والطائرة B-2 قد تتجاوز ستين فى المئة فى خطوط الجناح وزواياه، ليس فى الشكل الظاهر فحسب، بل فى طريقة إدارة الهواء وتوزيع الضغط على السطح عند السرعات العالية. لقد تعلّم الإنسان من هذا الطائر كيف يوجّه الهواء بدل أن يصارعه، وكيف يجعل من مقاومة الطبيعة حليفًا بدل أن تكون خصمًا. حتى تصميم مداخل الهواء فى الطائرة الشبحية استوحى فكرة من فتحات أنف الشاهين التى تُخفّف ضغط الريح وتُنظّم تدفقها أثناء الغوص بسرعةٍ مهولة، وكأن الهندسة الحديثة لم تكن سوى ترجمةٍ حرفيةٍ لأمرٍ فطرى أودعه الله فى طائرٍ صغير.
لكن ما يفوق كل تشابهٍ هندسى هو ذاك التشابه فى الروح. فالشاهين لا يطير عبثًا، بل يطير بهدفٍ واضح، نحو هدفٍ بعيد لا يراه إلا هو. والطائرة B-2، رغم صمتها وسوادها وهدوئها فى السماء، تحمل الغاية ذاتها: بلوغ الهدف بأقل ظهور، وبأكبر دقة. كلاهما يتحرك فى صمتٍ مهيب، وكأنهما يدركان أن القوة الحقيقية لا تحتاج ضجيجا. وما أعجب أن يكون درس التكنولوجيا الكبرى مستمدًّا من مخلوقٍ صغيرٍ يُسبّح بحمد خالقه كلما خفق جناحه.
حين نتأمل الشاهين، لا نرى فيه مجرّد نموذجٍ للطيران أو مصدرًا لفكرةٍ صناعية، بل نرى فيه مرآةً لما أراد الله أن نتعلّمه من الطبيعة: أن كل شيءٍ فى الكون يحمل حكمة، وأن على الإنسان ألا يغترّ بعلمه، لأن كل ما يبدعه إنما هو اقتباسٌ من كتابٍ مفتوحٍ أمامه منذ خُلق كتابُ الطبيعة. فمن صقرٍ يعلو فى الفضاء، وريحٍ تمرّ بين جناحين، تعلّمنا أن الابتكار يبدأ من التأمل، وأن العِلم الحقيقى يبدأ حين يرفع الإنسان بصره إلى السماء فيرى فيها جمال الخلق، لا مادّة الحساب.
وهكذا، تبقى قصة الشاهين والطائرة B-2 حكاية تلاقى بين الإلهام الإلهى والعقل الإنساني، بين الفطرة والعلم، بين ريشٍ من نورٍ وحديدٍ من نار. وفى النهاية، لا يملك المرء إلا أن يقول فى خشوع: سبحان من علّم الطير كيف يطير، وعلّم الإنسان كيف يتأمل الطيران.









