يقف السودان اليوم عند مفترق خطير: صراع قوة داخلية تحول إلى لعبة إقليمية، وجماعات مسلحة صارت أدوات بيد من يمولها ويوجهها. المشهد لا يشبه نزاعات محلية عابرة، بل هو تهديد وجودى يلوح فى الأفق، ليس فقط للسودان ولشعبه، بل للأمن القومى المصرى أيضاً. لذلك، لم تعد الشعارات والبيانات كافية – نحتاج إلى «خط أحمر» جديد يُعيد ضبط الأمور ويمنع استغلال السودان كحلبة للمصالح الخارجية.
ثمة دروس مُرة فى التاريخ القريب. عندما سمحت الفوضى والميليشيات بأن تقتحم مفاصل دولةٍ مجاورة، تحولت الأزمة إلى أداة بيد أطراف لاتهمها مصالح أهل البلد بقدر ما تهمها مواقع استراتيجية وتأثير جيوسياسي. فى ليبيا، تحولت سيطرة الميليشيات وانتشار الجماعات المسلحة إلى ورقة يُزايد بها الخارج، وبرز تحذير مصرى واضح حين أعلنته القاهرة أن هجوم أى قوة على مدينتى سرت والجفرة «خط أحمر»، ما عكس إدراكاً لأخطار السماح بوجود مناطق خارج سيطرة الدولة تتحول إلى منصات تهدد أمن الجوار.
ما يحدث فى السودان اليوم يشى بأن السيناريو نفسه لم يعد مجرد احتمال، بل خطر حقيقى جهازٌ مسلّح تحول إلى قوة مستقلة أو دمية تنفيذية عندما تحاصره تمويلات وخبرات خارجية، وتُزوّده بأسلحة وتقنيات وغطاء سياسي، عناصر خارجية كثيرة دخلت على خط النزاع السوداني، والدعم الدولى والإقليمى لكل طرف فاقم الصراع وجعل الحل السياسى أكثر تعقيداً، هذا التدخّل لا يبقى داخل حدود الخرطوم، بل يمد أذرعه إلى الحدود والاقتصاد والهجرة غير النظامية، ويزيد من تهديدات الأمن الإقليمي.
ومن الخطأ النظر إلى السودان كدولةٍ جارة فقط، فالتاريخ والجغرافيا يحكيان قصة أعمق. كانت السودان يوماً جزءاً من المملكة المصرية، وكان يُلقّب الملك فؤاد بـ»ملك مصر والسودان وصاحب النوبة ودارفور وكردفان». صحيح أن التاريخ لن يُعيد نفسه، وأن من ثوابت السياسة المصرية المعاصرة احترام سيادة الدول وعدم السعى للهيمنة أو التوسع، إلا أن هذه الحقيقة التاريخية تذكّرنا بأن السودان ليس ساحةً غريبة عن مصر، بل امتدادٌ طبيعى وعمقٌ استراتيجى وحضاري. ولعلّ الفارق بين نظرة مصر للسودان ونظرة الآخرين يكمن هنا تحديداً: فبينما ينظر البعض إلى السودان باعتباره منجماً للذهب أو مساحة شاسعة من الأراضى تُدار كصفقات، ترى مصر فيه دولةً ذات سيادة وشعباً أصيلاً عريقاً يعانى اليوم جراحاً نازفة تستحق أن تُترك لتلتئم بعيداً عن العبث الإقليمى والدولي، لذلك، أى تدخل خارجى يعبث بتوازن السودان أو يستغل معاناته لن يُقابل فى القاهرة إلا بالرفض واليقظة.
الأمن القومى المصرى ليس محصوراً فى حدودٍ مرسومة على الخرائط، بل يمتد فى العمق الجنوبي، حيث يبدأ الخطر ويتشكل التهديد. انهيار السودان أو انقسامه سيخلق فراغاً استراتيجياً بالغ الخطورة: تدفق السلاح، انتشار الإرهاب، موجات النزوح، وتأثير مباشر على النيل شريان الحياة. كل ذلك يجعل من السودان قضية أمن قومى من الطراز الأول، لا تقبل التهاون أو الانتظار. لقد أثبتت التجارب أن الفوضى لا تبقى داخل أسوارها، وما يحدث فى السودان اليوم يمكن أن يمتد إلى دول الجوار، ويعيد تشكيل خريطة التوازنات فى إفريقيا والبحر الأحمر. وإذا كان الخارج يسعى لاستثمار الصراع لخدمة مصالحه الاقتصادية والسياسية، فإن مصر لا يمكنها أن تقف متفرجة أمام تهديد مباشر لجوارها التاريخي.
الحديث عن «خط أحمر جديد» لا يعنى دعوة للحرب، بل إعلان مبدأ وتنبيه للعالم: أن العبث فى السودان أو تهديد أمن مصر عبره ليس خياراً مقبولاً. الخط الأحمر الجديد هو موقف استراتيجى متكامل- سياسي، أمني، دبلوماسى – يُرسم بالعقل والحكمة لا بالصوت العالي. ويقوم هذا المبدأ على وضوح الرؤية بأن احترام سيادة السودان ومنع أى طرف خارجى من استخدام أراضيه أو فصائله كأداة ضغط أو نفوذ، وإغلاق منافذ التمويل والتسليح التى تُبقى النار مشتعلة، وإطلاق مبادرة إقليمية عربية – إفريقية تُعيد للسودان قراره الوطنى بعيداً عن الوصاية والتدويل، كلها ركائز لا غنى عنها.
إن الخط الأحمر الذى رُسم ذات يوم فى ليبيا أنقذها من الانهيار الكامل، واليوم قد يكون الوقت حان لرسم خط مماثل على حدود السودان، ليس للتوسع أو السيطرة، بل لحماية الدولة من التفتت، ولصون الأمن القومى المصرى من ارتدادات الفوضي. فى النهاية، السودان يخص السودانيين، وحلوله لا تنبثق إلا من إرادتهم الحرة. لكن حين تتحول أزمته إلى ورقة فى أيدى الآخرين، يصبح على مصر أن تذكّر الجميع بأن اللعب فى محيطها الحيوى له حدود، وأن «الخط الأحمر الجديد» ليس خياراً تهديدياً، بل رسالة سلام تحفظ التوازن وتحمى الشعوب من نارٍ إذا اشتعلت، فلن يسلم منها أحد.









