حسنًا فعلت الدولة حين وضعت يدها على موطن الداء ورأت أنه بات ضروريًّا إصلاح الإعلام ليؤدى رسالته فى التنوير وتصحيح الوعى وصيانة الرأى العام من شرور السيولة الإلكترونية على السوشيال ميديا التى لا تحكمها معايير ولا تؤتمن على عقل..!!
تعلمنا أن مهمة الصحافة والإعلام أن يكونا مرآة الحقيقة وعدسة المجتمع على ما يجرى فى كل مكان بالبحث والفحص والمعلومة الصادقة والتحليل الموضوعي، صحيح أن الخبر واجب، لكن الصدق شرط، والتحليل ضرورة، والضمير بوابة لا يمكن الالتفاف عليها.
الإعلام، حين يستقيم، يصبح ضميراً عاماً يزن المصلحة الوطنية بميزان دقيق، يحمى حرية التعبير ويحفظ الأمن القومى فى الوقت ذاته، فيدافع عن خصوصية الناس بينما يفتح النوافذ للهواء النقى ويمنع أن تتحول الشفافية إلى فوضي. والإعلام، فى كل الدول المدنية الحديثة، ليس زينة ديمقراطية بل أحد أعمدتها الصلبة التى تقوم عليها الدولة.
كيف يمكن لمجتمع أن ينضج رأيه العام من غير إعلام يراقب البرلمانات والحكومات؟ من غير عين يقظة تتعقب مواطن الخلل والقصور كما تحتفى بالإنجاز؟ من غير وسيط واعٍ ينقل نبض الشارع إلى صانع القرار ويشرح قرارات الدولة للمواطنين بما يضمن التفاهم لا التنافر والتباعد؟ كيف يمكن أن تقوم حياة سياسية وبرلمانية واجتماعية صحية إذا غاب الإعلام القادر على طرح أسئلة الوقت التى لا مفر منها لصيانة التجربة وحراستها؟
لا يحتاج المرء إلى ذكاء خارق ليدرك أن الإعلام المصرى لا يزال يصارع أزمات ممتدة منذ يناير 2011.. وإلا ما اهتمت الدولة بضرورة تطويره ودفعه على الطريق الصحيح.. عندما غابت الخبرة تراجعت الموهبة وتقلصت فرص التجديد. بعض المنصات تحوّلت إلى ساحات للتجريح والاستقطاب، وبدلاً من بناء الوعى صار المشهد أحياناً منتجاً للبلبلة والفوضي. هل يمكن لإعلام غير منضبط أن يقود معركة الوعى التى شدد عليها الرئيس السيسى مراراً؟ هل يتحقق الاستقرار إذا أصبح الإعلام نفسه مصدراً للارتباك؟
هناك مسئوليات أخلاقية لا يجوز الهروب منها. فحين تنشر بعض القنوات والصحف مثلًا أخباراً غير موثقة عن نقص سلعة أو ارتفاع أسعارها تتوتر شرايين السوق ويهرع المحتكرون لاحتجازها فتشتعل الأسعار، ما يضغط على الفقراء ويصيب المجتمع بالهلع. من المستفيد إذن؟ خصوم الوطن داخل الحدود وخارجها يحصلون على هدية مجانية..ألا يستحق الأمن المجتمعى قدراً من التعقل الإعلامى قبل السبق والضوضاء؟ هل يدرك القائمون على المهنة أن الشائعة قد تضر اقتصاد دولة كاملة بينما لا تتجاوز مساحة الكلمة بضعة سنتيمترات على الشاشة؟
وبرغم كل ذلك، فما زال الأمل حياً. الدولة اليوم تفتح الباب لإصلاح المنظومة من جذورها، ليس تجميلاً شكلياً بل تغييراً فى طريقة التفكير والإدارة. جرى تشكيل لجان عديدة داخل الهيئات المنظمة للإعلام، وأحدثها لجنة، مكلفة بالبحث عن حلول واقعية للنهوض بالمحتوى وتحرير المؤسسات من الجمود والديون وازدواجية الأدوار، السؤال الذى يفرض نفسه: هل تستفيد هذه اللجان من الدراسات والخطط المتراكمة عبر السنين؟ هل تعود مثلاً إلى الدراسة التى أعدتها مؤسسة حازم حسن لتطوير العمل الصحفى بدار التحرير للطبع والنشر «جريدة الجمهورية» أثناء رئاستى مجلس إدارتها، بعد جريدة الجمهورية وأيضاً دراسة كلية إعلام القاهرة عندما كانت د. ليلى عبدالمجيد عميدة لها حيث أعدت دراسة علمية واقعية للاستفادة من تاريخ المؤسسة والفرص المتاحة لتطوير إصداراتها.
وغيرها من الرؤى الرصينة لأساتذة وخبراء إعلام طواها الأدراج من غير أن تجد طريقها للتنفيذ؟
ما الذى يمنعنا من مراجعة تجارب الدول التى جعلت إعلامها قوة ناعمة متفوقة؟ لماذا نظل أسرى طرق تقليدية فى التدريب والتحرير والإدارة بينما العالم تجاوزها بأشواط؟ كيف نواجه الإعلام الأجنبى فى عصر المنصات المفتوحة إذا لم نستطع أولاً كسب ثقة الجمهور المحلي؟
استعادة المصداقية هى حجر الزاوية، لاجدوى من آلاف الساعات على الهواء ولا من طباعة ملايين النسخ إذا كان الجمهور غير مقتنع. الاستقلال المهنى لا يعنى العداء للدولة، والنقد البنّاء لا يعنى إسقاط هيبتها. المطلوب إعلام يساند عندما يكون الدعم ضرورة، وينبّه عندما يصبح الخطأ خطرًا، ويرفع المصلحة العامة فوق كل مصلحة. إعلام عصرى يتخلص من الترهل، يوظف الكفاءات، يفتح الباب للمواهب الشابة، يصنع أسماءً جديدة قادرة على حمل الراية مثلما حملها الرواد الكبار ذات يوم.
السؤال الجوهري: متى نلمس نتائج حقيقية لجهود الاصلاح؟ متى تتحول اللجان إلى قرارات، والرؤى إلى صناعة، والتمنيات إلى وقائع؟ الوطن يقف فى منطقة من أعقد مناطق العالم، وخصومه لا ينامون، ومعارك الوعى لا تقل شراسة عن معارك الحدود. إذاً لا مفر من صحافة قوية وإعلام قادر، لأن قوة الدولة تبدأ من قوة خطابها وثقة شعبها فيما يسمع ويري.
الفرصة مواتية واللحظة لا تحتمل التردد، إذا نجحت المنظومة الإعلامية فى النهوض من عثرتها ستكون طاقة ضوء هائلة تسند مشروع الدولة فى البناء والبقاء. وإذا تعثرنا فلن يرحمنا التاريخ ولا الجغرافيا ولاالزمن الذى يمضى بلا انتظار.









