سؤال جوهرى يطرح نفسه بقوة على الساحة السياسية: من يملك زمام المبادرة الآن، إسرائيل التى تخضع للإملاءات الأمريكية، أم مصر التى تصوغ التفاهمات؟
فى ظل التحولات الراهنة، تبدو مصر اليوم أكثر حضوراً وتأثيراً من أى وقت مضي، فهى تتعامل مع واشنطن وأوروبا بعلاقات متكافئة قائمة على الاحترام والمصالح المشتركة، وفى الوقت ذاته تحافظ على موقعها المحورى داخل الدائرة العربية، بما يضمن لها دور الوسيط الموثوق وصانع التوازن فى الملفات الشائكة من غزة إلى المتوسط.
فبينما كانت الأنظار تتجه إلى بروكسل حيث تعقد أول قمة رسمية بين مصر والاتحاد الأوروبي، كانت القدس تشهد مشهداً مغايراً: رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو يغرق أكثر فى «حضن أمريكيا»، حسب وصف صحيفة تايمز أوف إسرائيل، فى إشارة إلى العلاقة غير المتكافئة التى تربط حكومته بإدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
ورغم محاولات نتنياهو المتكررة لإظهار «شراكة الند للند»، فإن المشهد السياسى والإعلامى فى إسرلائيل يقر بحقيقة أخري: القرار الإسرائيلى بات مرتهناً بالكامل للبيت الأبيض، سواء فى ملف غزة أو فى الترتيبات الإقليمية التى تنسج حولها.
الاجتماع الأخير فى القدس بين نتنياهو ونائب الرئيس الأمريكى جي. دي. كشف حدود الحركة لدى الحكومة الإسرائيلية، بعدما باتت كل خطوة ميدانية أو سياسية تحتاج إلى موافقة واشنطن، فالهدنة فى غزة، التى فرضتها إدارة ترامب، تدار فعلياً من خلال «مركز التنسيق المدنى العسكري» الذى يشرف عليه الأمريكيون ميدانياً، فى مشهد غير مسبوق داخل إسرائيل نفسها.
ترامب، هو من أملى شروط وقف إطلاق النار، وهو من يرسم ملامح «اليوم التالي» فى غزة، بينما يجد نتنياهو نفسه محاصراً بين رضوخ إجبارى للقرارات الأمريكية وضغوط انتخابية داخلية تهدد مستقبله السياسي.
المفارقة أن إسرائيل، التى طالما تباهت بأنها «الحليف الأقرب» لواشنطن، أصبحت الآن «تابعاً سياسياً» لا يملك حرية المناورة، حتى قضية معبر رفح التى كانت تستخدمها حكومة نتنياهو كورقة ضغط باتت تدار وفق الرؤية الأمريكية التى توازن بين دور مصر المحورى ومتطلبات الهدنة.
فى المقابل، تبرز القاهرة كلاعب رئيسى فى إدارة المشهد برمته، فبين قمة شرم الشيخ التى شهدت توقيع خطة السلام الجديدة، وقمة بروكسل التى تعزز موقع مصر فى شراكتها مع أوروبا، تتكرس صورة جديدة فى الإقليم: مصر أصبحت مركز الثقل السياسى بين واشنطن وأوروبا من جهة، والعواصم العربية من جهة أخري.
بينما يلهث نتنياهو خلف رضا ترامب، تعمل مصر على ترسيخ سياسة التوازن، متمسكة بدورها فى ضمان استقرار غزة، ودعم الدولة الفلسطينية، والحفاظ على الأمن الإقليمى دون الارتهان لأى محور، هذه السياسة الواقعية جعلت الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة يعترفان صراحة بأنه لا تسوية ولا استقرار فى المنطقة من دون القاهرة.
أما إسرائيل، التى تواجه انتخابات صعبة فى 2026، فتبدو اليوم أسيرة قرارات البيت الأبيض أكثر من أى وقت مضي، فحتى الطموحات اليمينية بضم أجزاء من الضفة الغربية أجهضها ترامب نفسه، مهدداً بوقف الدعم الأمريكى إذا أقدمت تل أبيب على أى خطوة أحادية.
فى ضوء ذلك، يمكن القول إن الشرق الأوسط يشهد تحولاً حقيقياً فى موازين النفوذ: إسرائيل تفقد هامشها المستقل، بينما تزداد مصر حضوراً وتأثيراً بفضل دبلوماسيتها المتزنة وشراكاتها المتعددة.
لقد أصبحت القاهرة اليوم صوت الاعتدال الذى يسمعه الجميع بينما يغرق نتنياهو أكثر فى عناق سياسى يكبله بدل أن يحميه.









