تستعد مصر خلال ساعات لحدث تاريخي ينتظره العالم؛ مع إشراقة شمس الأول من نوفمبر المقبل سيتم الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير (GEM) بالقرب من أهرامات الجيزة..صرح ثقافي ضخم – ينافس أكبر متاحف العالم – وهذا الحدث ليس مجرد افتتاح لمبنى حديث، بل لحظة محورية في مسيرة النهضة الوطنية وتجديد الصلة بتاريخ مصر العريق.
ولم يكن اختيار هذا الموعد مصادفة؛ إذ سيفتح المتحف أبوابه للجمهور في 4 نوفمبر بالتزامن مع الذكرى الـ 103 لاكتشاف مقبرة الفرعون الذهبي توت عنخ آمون، وإن هذا التزامن المقصود بين إنجاز الحاضر وإحياء ذكرى أحد أهم اكتشافات الماضي يؤكد أن المشروع يتجاوز كونه عملًا لوجستيًا إلى رسالة حضارية عميقة تربط مهمة التنمية الحالية مباشرةً بالإرث المصري المتجذر عبر القرون.
لقد وقف المصريون دومًا عند ملتقى حضارتين عظيمتين تمازجتا عبر التاريخ، وكما قال الأديب العالمي نجيب محفوظ: “أنا ابن حضارتين تكونتا في مرحلة معينة من التاريخ في زواج سعيد، أُولاهما الحضارة الفرعونية التي يبلغ عمرها 7 آلاف عام، والثانية الحضارة الإسلامية التي يبلغ عمرها ألفًا وأربعمائة عام”، حيث يجسّد المتحف المصري الكبير هذه الحقيقة الفلسفية العميقة؛ فهو دليل حي على أن الهوية الإسلامية لمصر لا تتعارض مع جذورها الفرعونية، بل تكملها في سردية متواصلة من الإبداع الإنساني، إنها لحظة احتفاء بهذا الاتحاد الفريد بين ماضينا العريق وحاضرنا الواعد، واستثمار هذا المخزون الحضاري لبناء مستقبل مزدهر لجميع المصريين ولعشاق التراث في كل أنحاء العالم.
إن الحفاظ على الآثار القديمة وترميمها وعرضها – حتى تلك العائدة لحضارات سبقت ظهور الإسلام – هو في جوهره ممارسة تقرّها الأديان بل تحث عليها وتشجّع مبادئها الأساسية. فالإنسان في التصور الإسلامي-على سبيل المثال-خليفةٌ مستخلف في الأرض، مأمور بالعناية بمقدراتها المادية والمعنوية على حد سواء، وقد جعلنا الله أُمَناء على ما في الأرض، يشمل ذلك البيئة والكائنات الحية كما يشمل الكنوز الثقافية والتاريخية التي تمثل ذاكرة الإنسانية.
إن المباني والقطع الأثرية التي خلّفتها الأمم السابقة هي في حقيقتها عبر ودروس تركها الله لنا؛ فهي سجلات للإبداع والتنظيم المجتمعي، وفي الوقت ذاته تحذيرات من تجاوزات حدثت عبر التاريخ وعليه فإن صون هذه الشواهد واجب أخلاقي، لنستخلص منها الحكمة ونتعلم من تجارب من سبقونا بدل إضاعتها أو إهمالها.
وسطية الإسلام وحماية الآثار
يتعين علينا التأكيد بوضوح أن الاحتفاء بتراث مصر الفرعوني وصون معالمه ليس مجرد جهد ثقافي مشروع فحسب، بل هو أيضًا متوافق تمامًا مع منهج الإسلام الوسطي المعتدل الذي تتبناه مؤسساتنا الدينية العريقة، فلقد وقف هذا الفكر المصري الوسطي سدًا منيعًا عبر العقود أمام دعاوى التطرف والجهل التي حرّفت مفهوم التوحيد لتبرر طمس التراث، فالأزهر الشريف – منارة العلم الإسلامي منذ أكثر من ألف عام – ولم يصدر عبر تاريخه أي فتوى تدعو إلى تدمير الآثار التي قامت حوله وشهدت عصورًا توالت على أرض الكنانة. وبالمثل، شدّدت دار الإفتاء المصرية في أكثر من مناسبة على عدم المساس بالتراث الحضاري الإنساني؛ بل أعلنت في عام 2015 بوضوح أن تدمير الآثار عمل لا يستند إلى أي سند شرعي، وأن الحفاظ على التراث أمر مشروع لا يحرمه الدين، وأشارت الدار أن صحابة رسول الله ﷺ حين دخلوا مصر ووجدوا الأهرامات وأبو الهول لم يصدروا حكمًا يمسّ هذه الكنوز التاريخية العظيمة، مؤكدةً أن من يحرّض على هدم التراث بحجة دينية إنما يعكس فكرًا متطرفًا ينم عن جهل بحقيقة الإسلام.
إن هذه المواقف القاطعة تجلّي أن الاستثمار في المتحف المصري الكبير ليس أمراً دنيويًا بل هو تأكيد على نهج الدولة المصرية الحريص على التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وإنه جزء أصيل من جهود تجديد الخطاب الديني، يبرهن أن دولتنا لا تزال على عهدها في صيانة التراث جنبًا إلى جنب مع البناء والتحديث ضمن إطار من التسامح والاعتدال.
نهضة مصر وتأكيد ريادتها الثقافية
أعلى المستويات في الدولة، يؤمن أن افتتاح المتحف المصري الكبير لحظة تحول استراتيجية ترسّخ مكانة مصر العالمية، فقد وجّه الرئيس عبد الفتاح السيسى بأن يكون حفل الافتتاح حدثًا يليق بعظمة مصر، لا لعرض روائع المتحف فحسب، بل لإبراز حجم التنمية والتحديث المستمرين في البلاد.
ولقد نجحت الدولة المصرية الحديثة في إنجاز هذا المشروع المعماري والهندسي العملاق بشهادة العالم، في إنجاز يوازي إبداع الأجداد الذين شيّدوا الأهرامات، وهكذا يعيد المتحف تعريف صورة مصر أمام العالم: فمصر ليست مجرد مستودع للآثار القديمة، بل هي أيضًا وجهة حديثة للثقافة والفكر وملتقى حضاري عالمي، ومن خلال جمع وعرض تراثها الممتد لآلاف السنين في صرح واحد مهيب، تستعيد مصر زمام سرد قصتها الحضارية، وتبعث برسالة فخر وثقة بأنها تمتلك الماضي والحاضر وبالتالي تتحكم في رسم المستقبل.
ويبرهن تصميم المتحف ورسالته على أن الحداثة يمكن أن تتجذّر في الأصالة؛ فمن قلب تقاليدنا العريقة نوظّف أحدث التقنيات لنقدّم للعالم تجربة متحفية فريدة، إنه نموذج لـ«حداثة بديلة» تمتزج فيها روح الماضي مع إنجازات الحاضر في تناغم خلاّق، في تأكيد على أنه يمكن خلق المستقبل بالاستناد إلى تراثنا الحضاري العريق دون تناقض بين التطور والهوية.
كنز حضارى وعائد اقتصادى
لا تنفصل القيمة الثقافية لهذا المشروع عن جدواه الاقتصادية الملحّة، فإن كان الحفاظ على التاريخ إرثًا حضاريًا، فهو أيضًا استثمار في مستقبل الوطن ولقمة عيش أبنائه، السياحة الثقافية التي سيعززها المتحف المصري الكبير تعد رافدًا حيويًا للاقتصاد المصري. وتشير التوقعات إلى طفرة مرتقبة في أعداد الزوار: حيث يُنتظر ارتفاع عدد السيّاح الوافدين إلى نحو 18 مليون زائر بنهاية عام 2025، مقارنةً بحوالي 15.7 مليون في العام السابق، كما يُقدّر أن تنمو إيرادات السياحة بمعدل سنوي يقارب 4.9 %، لتسهم بنحو 8.6 % من الناتج المحلي الإجمالي الوطني، والأهم أن هذا الانتعاش السياحي يعني فرص عمل جديدة للمصريين؛ فقطاع السياحة يوفر حاليًا قرابة 2.7 مليون وظيفة مباشرة، مع توقعات بزيادة هذا الرقم بحوالي 8.6 % خلال العام القادم (أي ما يقارب 200 ألف وظيفة إضافية) .
إن خلق الوظائف ودفع عجلة التنمية بهذا الشكل يحقق مقصداً اجتماعيًا واقتصاديًا نبيلاً حثّ عليه الدين الحنيف، وهو مسئولية الدولة في تأمين الرزق والاستقرار لمواطنيها بالوسائل المشروعة. وليس خافيًا أن ازدهار السياحة سينعكس إيجابًا على طيف واسع من الصناعات والخدمات المساندة – من فنادق ونقل إلى حرفيين وأسواق تراثية – مما يوسّع قاعدة الازدهار لتصل ثماره إلى شرائح واسعة من المجتمع المصري، تعزيزًا للصمود الاقتصادي والرخاء المشترك.
إن افتتاح المتحف المصري الكبير ليس مجرد احتفال وطني بصرح ثقافي عالمي، بل هو مناسبة للتأمل العميق في مسيرة مصر الحضارية ورسالتها المستمرة. فهذا المشروع نجح في التوفيق بين تراثنا الفرعوني الضارب في القدم وهويتنا العربية الإسلامية الراسخة، وأكد المسار المعتدل لمؤسساتنا الدينية في وجه التشدد، كما حمل بشائر ازدهار اقتصادي ملموس بإذن الله. ومع ذلك فإن واجبنا ألا نكتفي بالنظرة الاحتفالية؛ فمن يدخل قاعات هذا المتحف مُعجبًا بعظمة الفراعنة ينبغي أن يستحضر أيضًا عبرة التاريخ وزوال بهجة الدنيا. إن تأمل قيام حضارات عظيمة ثم أفولها يرسّخ في النفوس التواضع أمام سنن الله، ويحثنا على استقاء العظات الأخلاقية من انحرافات الماضي الروحية مع الاعتزاز بما حققته تلك الأمم من تفوّق مادي كان أساسًا للتقدم الإنساني
إن مهمة الحفاظ على تراث مصر والانتفاع به في تعزيز مكانتها ومستقبلها الاقتصادي تتطلب منا جميعًا يقظة دائمة ووحدة وطنية صلبة. يجب أن نبقى حريصين على حماية خطابنا الديني والثقافي من أي أفكار متطرفة أو مغلوطة تسعى للنيل من هويتنا الجامعة أو لبث الفرقة بين أبناء الوطن. إن نجاح المتحف المصري الكبير، وما سيجلبه من خير عميم للوطن، مرهون بوعينا الجماعي وتمسّكنا بنهج الوسطية والاعتدال الذي حمى وحدتنا عبر العصور.









