تمثل قصائد ديوان “حصاد أعوامي” للشاعرة مريم النقبي لوحة كاملة من الخطوط والألوان والصور التي تشكل بوضوح شخصية الشاعرة وتعبر عنها وتكشف قناعاتها واهتماماتها والطريقة التي ترى بها العالم والتي تختلف فيها عن كثير جدا من الشاعرات في الإمارات والخليج بشكل عام بل وتتجاوز أحيانا فيها الشعراء – رغم عدم إيماني بالتصنيفات في الشعر- فالشاعرات مع تباين اهتماماتهن لكن يظل الحس الرومانسي لديهن مهيمنا إلى حد بعيد وتتعدد قصائدهن التي تعالج خلجات المشاعر وتقلبات القلوب ومعاناتهن في تجارب الغرام وغيرها، وحتي الشعراء كذلك لكن المقارنة بالشاعرات أقرب إلى الواقع حيث تهيمن على ديوان النقبي وتجاربه الشعرية المتنوعة و قصائده التي تصل إلى 40 قصيدة حالة انشغال بالهم العام وقضايا الوطن ورموزه أكثر ما تنشغل بالذات وشواغلها، وحتي في المساحة التي تحتلها شواغل الذات لا تجدها مساحة خالصة للذات بل تزاحمها القضايا العامة مما يشي بحجم الانشغال بالقضايا العامة على تنوعها وإيثارها على الهم الشخصي وتلك طبيعة شخصية تكشفها القصائد وهى أهم ما يفصل بينها وبين الكثير من شاعرات جيلها والأجيال المختلفة في الاهتمامات ومضامين القصائد، ولا شك أننا لا نمنح أفضلية لاهتمام على آخر أو مضمون فوق مضمون أو دونه فشواغل الشاعر وموضوعاته واختياره لما يحب أن يكتب عنه هو من صميم حريته، نحن فقط نحلل ونشير إلى الفروق البارزة بين عوالم الشعراء المختلفة وخط سير إبداعهم، ولنقرأ من ديوان ” حصاد أعوامي” لمريم النقبي مثلا قولها في مفتتح الديوان وتحديدا من قصيدة ” نياشين الفخر”:
دولة تهدي لهالعالم عبر / في جميع الكون تفرض الاحترام
هى منارة عز تسعى للنصر/ في مبادئها عناوين السلام
….
عيشي يا بلادي على مر الدهر / شامخة بأفعال قادتك الكرام
***
وهكذا من البداية يفتح القارئ بوابة عالم الشاعرة وأعوامها ليجد أنها اختارت أن تبدأ بالوطن وقادته الكرام ليكون أول حصادها هو ترسيخ وتأكيد وإعلان حبها العميق لبلدها وانشغالها بماضيها وحاضرها ومستقبلها وليكن إعلان حبها لوطنها هو خير مفتتح لطريق ممتد بهذا الشغف إلى نهايته.
وهكذا تؤكد على الدرب ذاته وفي قصيدتها الثانية ” أغلى بلد” ما افتتحت به حين تقول:
من واحد وسبعين واحنا ماضيين/ نعتلى الأمجاد في ظل الوعد
كل يوم إنجاز يتحقق يبين/ والطموح بدارنا ما له عدد
دارنا دانة من العقد الثمين / مثلها في الكون كله ما انوجد
ع العدل تمشي ومنهجها رزين/ من زمن” زايد” وتبقى للأبد
والتسامح عندنا دنيا ودين / كلنا أخوة ولا نفند أحد
إذ تشير النقبي بكل فخر إلى تاريخ إعلان الوحدة بين الإمارات وإلى المبادئ التي رفعها “زايد” عليه رحمات الله ورضوانه ورسخها وانطلق بها الأبناء والأحفاد إلى عنان السماء ، تلك المبادئ التي يقع في القلب منها “التسامح” والتنوع وقبول الآخر والتعدد واستيعاب الاختلاف وترسيخ مبادئ السلام والعدل والتعايش بين جميع من يعيشون على أرضها من كافة أجناس الأرض.. لتصبح مثالا يرنو إليه العالم في هذا السياق.. وللقائد العظيم الشيخ زايد حضورا لافتا في قصائد الشاعرة وكأنها تشعر في كل قصيدة أنها لم توفه حقه فتسرع إلى ذكر محاسنه التي يشهد بها الجميع من جديد فتقول في قصيدتها” أيقونة سلام”:
كان زايد غير ما بس هو قايد / رمز الخير وايقونة سلام
زايد اللى بطيبته والخير سايد/ لو رحل باقي على مر الدوام
كان زايد من زمن وقت الشدايد / ينثر لنا النور في وجه الظلام
كان رمز وكان فخر وكان رايد / وللعروبة درع وعتاد وحزام
وهكذا وكما أشرنا يستشعر القارئ أن الشاعرة كما لو كانت لا تريد للقصيدة أن تنتهي وأن يظل القلم يكتب والقلب يتذكر والخيال يصور والمعاني تحاول بلوغ ما يستحقه زايد الوالد من أوصاف وتوصيفات وهكذا تنسج الشاعرة بصدق وبشغف وبانشغال كما بدأنا حديثنا بالعام قبل الخاص وبالوطن وقادته ورموزه قبل أى حديث عن الهموم والأمنيات والتجارب الخاصة.. وهو ما يتكرر كثيرا بطول الديوان عن الكثير من القضايا والشخصيات الوطنية والرموز مما لا يتسع المقال لذكره وإنما هى أمثلة داله نحاول بها كشف الطريق إلى قراءة هذا الحصاد المشرف.. ولعلنا نشير إلى أحد هذه الرموز والقامات الشامخة وهو الشيخ الجليل والمثقف الكبير أمد الله في عمره راعي الثقافة والأدب والإبداع الشيخ سلطان القاسمي وعنه تقول:
شكل التاريخ في خمسين عام/ وأزهرت في عهد حكمه الشارقة
في ملامح وجهه بشارة سلام/ وفي تفاصيله مزايا فارقة
هذا هو سلطاننا الشهم الهمام/ له يمين كالغضون الوارفة
***

وفي قصيدة” روح الثقافة” تقول عنه أيضا:
للشعر بيت مطلقة بيبانه/ وفي الشارقة يقوي ثبات أركانه
إن جيت أنا للشارقة بنشدها/ كيف الثقافة شدها عنوانه
قالت أبوي القاسمي علمني/ أن الثقافة للشعب عنوانه..
***
ولا أعتقد أن يختلف اثنان في هذا العالم على ما قدمه ويقدمه الشيخ القاسمي- أطال الله في عمره- لأهل الشارقة خاصة وللعالم العربي والإسلامي بل وللدنيا من دعم للثقافة والإبداع ومد كل يوم جسرا جديدا يصلنا بتراثنا وحضارتنا في اتجاه وفي الاتجاه الآخر يذهب بنا نحو المستقبل والمعرفة والفكر والإبداع .
تقاطع هموم الذات مع الهم العام
وعندما نتوقف في قصائد الديوان أمام جانب من الحديث عن الذات وشواغلها وهمومها نجد أنفسنا أمام شاعرة واثقة تقف على قدمين ثابتتين من القناعات والمبادئ الراسخة تفخر بذاتها في مناسبات عديدة وتعتد بتلك الذات اعتدادا لافتا لكنه الفخر والاعتداد الذي لا يتجاوز أبدا إلى الغرور وما شابه لكنه فخر من يرى الطريق واضحة ويسير إلى هدف محدد في الحياة بجهد وإصرار وبشيء من الجدية والعزم على مواصلة الطريق وتحقيق الأمنيات الشخصية التي أكدنا سابقا أنها تتقاطع كثيرا مع الشأن العام، فتقول مثلا في قصيدتها ” بنت الإمارات”:
أقولها بإحساس بنت الإمارات / إنني جديرة بالفخر وأنتمي له
أنا الأماني الواعدة والطموحات/ وأنا المعاني الوافيات النبيلة
وأنا نموذج للنساء الحشيمات/ اللى حشمها ما تلاقي مثيله
أنا جمعت أمجاد كل الحضارات/ علم وثقافة ومكرمات وفضيلة
وهنا تفخر وحقها أن تفخر بأنها ابنة الإمارات وتؤكد أنها بنت الأماني والطموحات والمعاني النبيلة، إذ تجمع في أضيق مساحة وأقل عدد من المفردات الكثير مما يمكن الإشارة إليه من السمو والمجد والفضيلة والاحتشام؛ فهى شاعرة طموحة تعمل وتجتهد وتسعى للنجاح في طريق محاطة بالفضيلة والاحتشام التي ورثته ونشأت فيه في بيئتها المحافظة ولعلنا نستطيع أن نرصد ذلك التماهي في البيت الأخير ” أنا جمعت أمجاد الحضارات/ علم وثقافة ومكرمات وفضيلة” بين الشاعرة التي تتحدث عن نفسها وبين ” الإمارات/ الوطن” وكأن الإمارات تتحدث عن نفسها ويمكن تأويل الأمر في الاتجاهين من واقع ذلك العشق الواضح والاهتمام والشغف والانشغال بالوطن البادي في إبداع شاعرتنا مريم النقبي.
وتأكيدا لذلك الاتجاه الذي يبدو جليا وراسخا وليس مجرد أمر عابر في قصيدة نجد شاعرتنا تذهب في اتجاه الفخر بالذات مجددا والإطراء عليها من زوايا أخرى إذ تقول في قصيدة فرصة عمر”:
أنا فرصة في العمر مرة تكون / واللى مثلى لا يتكرر مرتين
أنا في الشدات لك ملجأ وعون/ وفي الفرح أول وجوه الحاضرين
أنا أرعى الود وأحفظه وأصون / ولا تغيرني مدارات السنين
لى عقل راجح وأمتلك قلب حنون/ وداخلى طفلة برائتها تبين
لى قدر عالى لا ولا يمكن يهون/ وهذا أغلى شيء تملكه اليدين
وتلك القصيدة تقدم لنا إضاءة كاشفة عن جوهر الشاعرة ودوافع الفخر والاعتزاز وربما نعود ونتذكر معا تعبيرنا في بداية الحديث عن منافسة وربما تجاوزها لبعض الشعراء من الرجال في الاهتمام ببعض المضامين مما يرسم لنا ملامح شخصية جادة وذات عزم لا يلين وهنا فالشاعرة تفخر بأنها” في الشدات ملجأ وعون” وهى في الأساس صفة الرجال الأوفياء والاصدقاء النبلاء وكذلك” رجاحة العقل” مما يتسم به الرجال بل والقادة منهم وهو ما تجده كثيرا في قصائد الشاعرات التي تشغلهن قضايا أكثر رومانسية! لكن في ذات السياق تقدم شاعرتنا ذاتها الإنسانية كامرأة” محتشمة” كما سبق وجاء في وصفها بأنها ” ذات قلب حنون” وأن بداخلها طفلة بريئة” وهنا تؤكد على تميز رؤيتها كشاعرة امرأة تأخذ من الرجال البأس والحضور في الشدائد ولا تنس ذاتها وطبيعتها بأنها في النهاية ذات قلب حنون وداخلها براءة الأطفال وتختم بالعودة إلى الفخر مجددا بأن ” لى قدر عالى ولا يمكن يهون” مؤكدة أن هذا للمرأة بل ولكل إنسان أغلى شيء يجب أن يملكه ويحافظ عليه الإنسان.
ويمتلأ الديوان وقصائده بأوجه كثيرة تكشف المزيد من جوانب عوالم الشاعرة ونظرتها وتفسيرها لكثير من الأمور والعلاقات الإنسانية ومنها عدد من قصائد الرثاء إن كشفت عن طبيعة المكانة التي كانت للمرثي في قلب الشاعرة فإنها تكشف أكثر عن وفاء الشاعرة والبعد الإنساني الصادق في تعاملها مع المحيطين بها من أقارب وأصدقاء وصديقات وشعراء وشاعرات تعلمت منهم وتتلمذت على أيديهم وجمعت بينهم أيام وذكريات لا تنسي.. وربما لا يتسع المقام للوقوف أمام كل ما ينطوي عليه ” حصاد أعوامي” وما قدمته لنا الشاعرة بصدق ولكن هى مجرد محاولة أو إضاءة عابرة ربما تساعد القارئ في الدخول إلى أجواء ديوان بديع يستحق القراءة.
جمال فتحي
الشاعرة:
مريم النقبي، بكالوريوس لغة عربية جامعة الإمارات 2003
شاعرة إماراتية، من مدينة خور فكان، إمارة الشارقة،
صدر لها من قبل ديوان ” سجايا الروح” 2008
لها عدد من الإصدارات في مجال توثيق المناسبات الوطنية وعدد من المبادرات الشعرية في مناسبات وطنية مختلفة.









