د. طه حسين مارس دور المفكر الوطنى المدرك لآمال المجتمع وآلامه والمعالج لها
أعداد هائلة من المتعلمين بلا تأهيل.. يوِّلد أجيالًا غير قادرة على مجابهة تحديات العصر

تحدث السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الأسبوع الماضى وخلال الندوة التثقيفية للقوات المسلحة عن الوعي، ليس بوصفه عملاً فكريًا فقط، بل باعتباره سلاح الأمة الأهم والأخطر فى معركتها ضد الجهل والتزييف وحروب الجيل الرابع.. كلمات الرئيس كانت جرس إنذار يذكر بأن الأوطان لا تُحمى بالقوة العسكرية فقط، بل تُصان بالعقول اليقظة والضمائر الواعية.. فالوعى ليس فكرة تُقال، بل قدرة على الفهم والتمييز والقراءة والتحليل للمشهد وتحدياته وهو خط الدفاع الأول ضد دعاوى الهدم والتشكيك والتضليل.
أكد الرئيس أن بناء الوطن لا يكتمل بجهد فى العمل وحده، بل بقدر ما يمتلكه المواطن من بصيرة تفرق بين الحقيقة والزيف، وبين البناء والهدم.. من هنا يكون المعنى واضحا بضرورة أن يصبح الوعى مشروع كل مصري.. أن يكون كل معلم مثل كل جندى مثل كل فنان مثل كل صاحب قلم.. الجميع شركاء فى حماية الوجدان الوطنى وصونه.
الدولة المصرية لا تتخذ خطوة واحدة إلا بعد دراسة متأنية وفهم عميق وتخطيط متكامل.. هذا ما أكده الرئيس.. وهو ما يدعو صناع الفكر إلى وضع خطة لأنفسهم لضمان نجاح مشروعهم فى بناء الوعي.. وهــو ما يعيد للأذهان الروح نفسها التى حملها طه حسين قبل نحو قرن، حين رأى أن الجهل هو الاستعمار الحقيقي، وأن الأمة التى لا تعرف نفسها تُكتب لها الهزيمة حتى وإن امتلكت السلاح.
قبل عامين فقط من صدور كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» كانت مصر قد وقعت معاهدة الشرف والاستقلال «1936» التى وضعت البلاد فى مرحلة جديدة من السيادة.. فجاء طه حسين إلى هذا المشهد الفكرى والسياسي، ليس ليحتفل بالاستقلال، بل ليطرح السؤال الأعمق ما الذى يجب على المواطن أن يدركه فى تحديات هذه اللحظة؟ ثم لا يترك السؤال مفتوحا بل يجيب عبر صفحات كتابه الخالد بخارطة طريق لمستقبل بناء الوعى فيمصر.. يحدد فلسفة المرحلة وكيفية تأثيرها فى مسار صحيح ويشخص مؤسسات الدولة المعنية ويطرح لكل منها مسارًا.. ليكون كتابه ليس فقط كتابًا فلسفيًا، بل «بيان وطني» يتحول إلى مرجعية للفكر الثقافى فى مصر.
العميد فى هذا العمل لا يلعب دور الأكاديمى المتخصص فحسب، بل يمارس واجبه كمفكر وطنى يقظ.. أدرك أن مهمته ليست حصر إنتاج بحث، بل تحفيز مجتمع بأسره على إعادة النظر فى موقعه، وإطلاق مشروع إصلاحى شامل.. نحتاجه تمامًا اليوم.. ونحتاج أكثر من يقدر على إنتاج مُناظر.
اللافت أن الطبيعة الثقافية للحظة التى كتب فيها الدكتور طه حسين «مستقبل الثقافة فى مصر» تتشابه إلى حد بعيد مع نظيرتها بعد ثورتنا المجيدة 30 يونيو حين استرد الوطن هويته، عن استرداد الهوية قال طه حسين إن مصر لا تبدأ من الصفر، بل تمتلك ميراثًا عقليًا ممتدًا منذ الفراعنة حتى الإسلام والعصور الحديثة، والشخصية المصرية ولدت توازناً بين الإيمان والعقل، بين الحس الدينى والروح النقدية، وآلية استرداد الهوية هى الحفاظ على الذاكرة الوطنية التى تميز المسارات الحالية.
كشف طه حسين أن مستقبل الثقافة فى مصر لايُبنى على الانغلاق فى الماضي، ولا على الذوبان فى مستجدات اللحظة، وإنما على استيعاب المنهجين معًا وأن نأخذ من الحاضر العلم والمنهج، ونحافظ من الماضى على القيم الروحية والهوية الأخلاقية، هنا يضع الأساس لمفهوم «المزاوجة الحضارية» التى ظلّت محور فكره التنويرى كله.
ويشرح كيف أن تاريخ مصر فى كل محطاته هو كنز من الخبرة فى تنظيم الدولة والعلم والتعليم، فالمصريون الأوائل، كما يقول، «أنشأوا أولى الجامعات حين لم تكن أوروبا تعرف حتى الحرف»..أكدد.طه أن انقطاع المصريين عن هذا الإرث العميق هو الثغرة الوحيدة التى قد تسمح بالغزو الثقافي، وبالتالى لابد من إعادة قراءة التاريخ لا بوصفه تمجيدًا للماضي، بل تأسيسًا للثقة بالعقل المصرى وقدرته على الإبداع المستقل.
«دور التعليم»
أفرد الكتاب صفحات كثيرة الحديث عن التعليم وركز حديثه على أن التعامل مع العملية الدراسية لابد ألا يقتصر على النظرة إليه كمصدر للوظيفة بل هو أساس بناء العقل وتكوين الذات والحفاظ على الهوية.
يرفض أن يكون التعليم وسيلة للوظائف أو نظامًا طبقيًا يفرّق بين الأغنياء والفقراء، بل يعتبره «صناعة الأمة من جديد».. فالتعليم عنده هو الذى يصنع الإنسان الواعي، والمواطن القادر على التفكير النقدى لا التلقين..يقول بعبارة أصبحت شعارًا خالدًا: التعليم كالماء والهواء. لكنه يضيف ما هو أعمق أن هذا التعليم يجب أن يكون مصريًا فى روحه وإنسانيًا فى غايته.
وقد لفت إلى خطورة التعليم الدينى حيث يؤدى إلى فجوات فكرية بين ابناء المجتمع الذى سينقسم – فى عصره – إلى أبناء مدارس مدنية على النمط الأوروبى ومدارس دينية على النمط الأزهري، ومدارس قبطية تحمل إرث الكنيسة، وبينهما جيل حائر لا يعرف إلى أى ثقافة ينتمي.. وهو هنا لم يهاجم الدين، بل انتقد طريقة التعليم التى تحوّله إلى حفظ دون فكر، وطقوس دون وعي.
ثم تناول طه حسين قضية التعليم الأزهرى والجدل، فدعا إلى إصلاحه لا إلى إلغائه، موضحًا أن الأزهر يمكن أن يكون رائدًا فى التجديد إذا تحرّر من أسوار التقليد.. يريد منه أن يجمع بين علوم الدين وعلوم العصر، وأن يعود إلى رسالته الأولى حين كان مركزًا للفكر الإنسانى لا الدينى فقط.
ومن المدهش أن نعيد قراءة هذه العبارة اليوم، والقيادة السياسية ما زالت تتحدث عن خطورة جعل التعليم أسيرًا لمعادلة الوظيفة والشهادة، فى حين أن العالم يتجه نحو الإبداع والتفكير النقدي، لقد كان طه حسين يكتب عن مصر الثلاثينيات، لكنه فى الحقيقة كان يصف أزماتنا اليوم فى صورة مبكرة.
طه حسين جعل إعداد المعلّم محورًا رئيسيًا فى مشروعه لبناء الثقافة القومية، لأنه رأى أن «المعلم هو أساس التعليم، والتعليم أساس النهضة». فى مستقبل الثقافة فى مصر، شدّد على أن إصلاح التعليم لا يمكن أن يتحقق إلا بإصلاح من يعلّم، وأنّ كل خطط تطوير المناهج أو إنشاء المدارس تبقى جوفاء إن لم يُعنَ المجتمع بإعداد المعلم إعدادًا علميًا وثقافيًا وأخلاقيًا رفيعًا. فالمدرس فى نظره ليس موظفًا يؤدى دروسًا، بل مربٍ وموجّه وناقل لروح الأمة، يجب أن يكون واسع الأفق، محبًا للمعرفة، قادرًا على تنمية العقول لا على حشوها بالمعلومات.
ويصرّ عميد الأدب العربى على أن المعلم لا يُعدّ فقط بتلقّى علوم التخصص، بل يجب أن يتلقّى ثقافة عامة تشمل الأدب والتاريخ والفلسفة والفنون، لأن الطفل لا يتعلّم من الكتب وحدها، بل من شخصية أستاذه ومن طريقة تفكيره. لذلك دعا إلى أن تكون معاهد إعداد المعلمين على مستوى الجامعات وهو بذلك كان أول من دعا لتأسيس كليات للتربية، تحقق ما يحتاجه المعلم من حيث العمق العلمى والانفتاح الثقافي، وأن يُتاح للمدرسين التكوين المستمر عبر القراءة والبحث والاحتكاك بالمجتمع، حتى لا يتجمّد فكرهم أو يتحول التعليم إلى تكرار آلي، ويذكّر بأن النهضة الأوروبية نفسها قامت على إعادة تأهيل المعلمين قبل بناء المدارس.
«الجامعة»
الثقافة والتعليم وجهان لعملة واحدة، فالتعليم الذى لا ينتج ثقافة هو تدريب مهني، والثقافة التى لا تعتمد على العلم تصبح خرافة، من هنا كان يرى عميد الأدب العربى أن بناء الجامعة المصرية يجب أن يكون رمزًا لهذا التكامل، وأن الجامعة لا تُقاس بمبانيها بل بأفكارها، ولا بميزانيتها بل بقدرتها على إنتاج الفكر الحر.
فى نظره، الجامعة ليست امتدادًا للمدارس، بل مساحة حرة للنقاش..والجامعة كما يؤكد لا تخرّج موظفين بل مفكرين..وهو تصريح يكشف عمق رؤيته الإصلاحية التى لم تفقد معناها حتى اليوم فى ظل الجدل حول دور الجامعات العربية بين البحث والبيروقراطية.
وهنا أشار طه حسين إلى خطر «أمية جديدة» ليست أمية القراءة بل أمية التفكير، حين يعرف الإنسان أن يقرأ دون أن يفهم، ويكرر دون أن يحلل، ويرى أن الخلاص من هذه الأمية لا يكون إلا بإحياء روح السؤال داخل كل عقل.
«بناء الأجيال»
طه حسين أفرد مساحة مهمة للحديث عن الطفولة والنشء، إذ رأى أن بناء الثقافة القومية لا يبدأ من الجامعة، بل من المدرسة الأولى ومن السنوات الأولى للطفل.. كان يؤمن بأنّ التربية فى الصغر هى التى تُنشئ الإنسان المصرى القادر على التفكير والتمييز، وأنّ التعليم الابتدائى ليس ترفًا بل «ضرورة وطنية» لتأسيس عقل الأمة.. فالطفل عنده ليس صفحة بيضاء تُملأ، بل طاقة قابلة للتوجيه، إذا أحسنا تشكيلها صارت مصدر نهضة، وإن أُهملت صارت عبئًا على المجتمع. لذلك شدّد على أن حق التعليم يجب أن يكون مجانيًا وإلزاميًا منذ الطفولة، لأن ترك الأطفال للجهل يُعَدّ ظلمًا لهم وللوطن معًا.
ويرى عميد الأدب العربى أن إعداد النشء إعدادًا ثقافيًا وأخلاقيًا متكاملاً هو حجر الأساس لكل إصلاح لاحق. فليس المقصود مجرد تلقين الطفل مهارات القراءة والكتابة، بل تربيته على القيم العليا – حب الوطن، احترام العمل، وتقدير الآخر.. لذلك دعا إلى أن تكون المدرسة مكانًا يغرس الفضيلة ويحرّر العقل من الخرافة، وأن تُربّى الطفولة على التفكير الحـــر لا الخضوع الأعمي.
طه حسين يرى أنّ الشباب هم النواة الحقيقية لنهضة الثقافة والوطن عليهم أن يكونوا حاملين للعلم والمعرفة لا مجرد متلقّين، لأنّ مستقبل مصر مرتبط بإعدادهم وبقدرتهم على الرفع من مستوى الوعى العام.. هو يؤكد أن الأمة لا تنهض إلا إذا ارتفع إنتاج المثقفين وازداد الاهتمام بالقراءة والتذوّق الفكري، ومكان الجامعة والمعاهد فى هذا الإعداد محوريّان.
دور الشباب، عنده، يتجاوز التلقّى ليشمل المشاركة المسئولة فى شئون المجتمع يجب أن يتعلموا التفكير النقدى ويكتسبوا عادات البحث والجدّ فى العمل العلمى والثقافي، لا أن يظلّوا «كتّاباً قارئين» بمستوى سطحى فقط.. طه حسين أيضا حذر من كمية هائلة من المتعلّمين بلا تأهيل سليم، لأن ذلك يولّد أمّة جاهلة غير مستعدة لمواجهة تحديات العصر؛ لذلك يربط بين قوة الوطن ووعى شبابه وفاعليتهم الثقافية والسياسية.
أما كيفية إعدادهم فتمثّل محور نصائحه العملية تطوير نظام التعليم العام والجامعى بحيث يهيّئ العقل لا يجهده بالمهاترات، إعدادُ المعلم كعنصرٍ أساسيّ، وملاءمة المناهج لقدرات التلميذ مع تشجيع القراءة الحرة والبناء النقدى بدلاً من الحفظ الآلي. كما يدعو إلى تكثيف المؤسسات العلمية والثقافية «الجامعات، المعاهد، النوادى الثقافية» لتكون فضاءات تحفيز وإنتاجاً فكرياً.
«الخطاب الدينى»
جدير بالانتباه أن الكتاب صدر بعد عشر سنوات على تأسيس جماعة الإخوان الإرهابية وبدأت نبرة التطرف الغريبة على المجتمع والهوية المصرية تبلغ آذان الدكتور طه حسين فأشار لخطورة هذا الوضع موضحا أن منبع الغلو هو جهل يقوم على التلقين والترديد بلا عقل.. لذلك يؤكّد أن الأزهر والمؤسسات الدينية يجب أن تخرّج فهماً دينياً يقوم على الاجتهاد والبحث والتفسير العقلانى بدل الحفظ، لأن الدين حين يُدرس كقوالب جامدة يصبح وقوداً للانعزال والتطرف لا وسيلة لتحقيق مراد الله من استخلاص الإنسان.
ثم قال فى سياق حديثه عن تطوير التعليم الدينى ينبغى للأزهر أن يعيد النظر فى مناهجه ليكون كما كان من قبل، منارة علمٍ ودين، لا مدرسة تحفظ ولا تفكر، ولا تُلقّن ولا تبحث.. ويضيف موضحًا أن الأزهر كان فى عصور ازدهاره يجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا: أن طلاب الأزهر كانوا من قبل يدرسون الفقه واللغة والمنطق والفلسفة والرياضيات والنجوم، فلم يكن العقل فيه محبوسًا، ولا الفكر فيه ضيق الأفق.
ومن هنا بيّن أن إصلاح الأزهر يعنى إعادة روحه الأولي، باعتباره المؤسسة القادرة على خدمة الدين بهدفه وقال إن الأزهر لن ينهض إلا إذا آمن بأن الدين لا يناقض العلم، وأن دراسة الكون لا تُنقص من الإيمان، بل تزيده قوة ونورًا.. ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الفكرة رغم بساطتها الآن إلا أنها كانت موضة رفض شديد من أغلب القائمين على الأزهر وقتها ورأوه شكلا من أشكال البدع المضللة!
استرسل عميد الأدب العربى فى شرح مفهوم الثقافة الوطنية، معتبرًا أن الأمة التى لا تعرف تراثها لا يمكن أن تدخل المستقبل بثقة، مؤكدا أن التراث مـــادة خام لا بد أن تُشكّل من جديد على صورة الحاضر.
ثم تناول قضية الاستقلال الثقافى فى زمن العولمة الفكرية «وكان يسميها آنذاك «التأثير الأجنبي». يرى أن الأخطر ليس أن نتأثر بالغرب، بل أن نفقد قدرتنا على التمييز بين ما نأخذ وما نترك فالأخذ الأعمى مثل الرفض الأعمي؛ كلاهما يقتل الإبداع.
قال إن الأمة التى لا تملك معاييرها الفكرية الخاصة، تصبح مرآة لغيرها، لذلك دعا إلى أن يكون لمصر «سياسة ثقافية» واضحة، تُخطط لما تُنتجه مدارسها وجامعاتها وصحفها وسينماتها، ولا أن تترك الأمر للصدفة أو للموضة.
وركز فى حديثه على أن مصر لن تبنى مستقبلها من الإنتاج الفكرى إلا إذا تحوّلت الثقافة إلى سلوك جماعي، والثقافة عنده ليست ما يُقرأ فى الكتب، بل ما يُمارس فى الحياة اليومية – فى المدرسة، فى البيت، فى الإعلام، وفى الضمير العام.
كشف طه حسين أن مشكلة مصر – وربما العالم العربى كله – ليست فى نقص الأفكار، بل فى غياب التنظيم الثقافى الذى يحول الفكرة إلى قوة اجتماعية، لذلك دعا إلى ما سماه «تنظيم الثقافة»، أى أن تُصبح الدولة راعية للثقافة مثلما ترعى التعليم والصحة، وكان بذلك أول من دعا لتأسيس وزارة للثقافة.
كان يريد أن تكون الثقافة مشروعًا وطنيًا شاملاً، يربط بين الجامعة والمسرح، وبين الصحافة والمدرسة، وبين الأدب والسياسة، بحيث يصبح الوعى قاعدة لكل تقدم.
«العالم العربى»
من القضايا التى أولى لها اهتمامًا خاصًا العلاقة بين مصر والعالم العربي.. فقد أكد أن مصر جزء من الأمة العربية ثقافيًا ولغويًا، لكنها تمتاز بتاريخ خاص يجعلها قادرة على قيادة المنطقة نحو التنوير.
شرح يشكل مستفيض أن نهضة العرب لن تتحقق إلا حين تنهض مصر، لأن الثقافة المصرية – بحكم عمقها وتنوعها – قادرة على أن تكون مركز إشعاع، يجمع الرؤى العربية ويعيد تقديمها للعالم لتساهم المنطقة بنصيب فعلى فى الإنتاج الفكرة العالمي.
أوضح أن اللغة العربية هى الركيزة الأولى للثقافة المصرية، وقد بالغت مصر فى عطائها للغة فجعلتها لغة حيّة متطورة، لا أسيرة القوالب القديمة، ثم دعا إلى لغةٍ تربط بين التراث والمعاصرة، تُحافظ على الأصل دون أن تنغلق عليه، لغة قادرة على أن تعبّر عن العلم والفن والسياسة الحديثة معًا.
وهذا الموقف يضعه بين أكثر المفكرين وعيًا بخطورة «الفجوة اللغوية» التى تعانى منها المجتمعات العربية حتى اليوم، حيث تنفصل لغة العلم عن لغة الحياة، وتصبح الثقافة منقسمة بين نخب تتحدث بلغة أكاديمية وجمهور يعيش بلغة الشارع.
«الإعلام ودوره»
أكد د. طه حسين أن السينما والمسرح والصحافة ليست وسائل ترفيه كما يراها البعض، بل أدوات لتكوين الرأى العام وبناء الذوق العام، أراد أن تكون الفنون امتدادًا للمدرسة لا منافسًا لها، وأن يتحمل الإعلام مسئولية التثقيف لا التهييج..ولو قرأ أحد هذه الأفكار اليوم لظنها كُتبت تعليقًا على حال بعض الإعلام الراهن الذى يلهث خلف الإثارة وينسى التنوير. لقد أدرك طه حسين أن الإعلام والثقافة وجهان لمعركة واحدة: معركة الوعي.
طالب بشيء من التقييد على الممارسة الإعلاميــة لا لشئ إلا لأنها قادرة بنص تعبيره على «التغلغل فى طبقات الناس إلى أبعد حد ممكن».
ثم قال «ومن السخف أن يظن بى أحد أنى أغض من قدر هذه الأدوات الثلاث أو أريد بها شرا، فأنا من المكبرين لها المؤمنين بنفعها الذين ينتظرون منها الخير كل الخير؛ لأنى لا أنظر إليها على أنها أدوات للإذاعة وإنما أنظر إليها على أنها أدوات لتثقيف الشعب وتهذيبه وتصفية ذوقه وتنقية طبعه وتحقيق الصلة بينه وبين غيره من الشعوب.. وأنا أعلم أن الأدباء والفلاسفة الأوروبيين يشفقون من هذه الأدوات الثلاث على العقل والثقافة أشد الإشفاق».
استطاع العميد أن يسبق عصره فيدعو لتأسيس أول قسم لتدريس الصحافة فى الشرق الأوسط ومن أساس كتابه هذا أيضا كان الفضل فى تأسيس أول كلية للإعلام فى الشرق الأوسط بجامعة القاهرة، وحدد الدكتور طه أن تتشكل سنوات الدراسة من ثلاثة أقسام.
القسم الأول: يتمرن الطلاب فيه على فنون اللغة العربية وآدابها ويتعرفون على أعماق الثقافة المصرية ويدرسون النظم الإدارية والدستورية وفى تاريخ العلاقات السياسية الخارجية.
والقسم الثاني: يتمرن الطلاب فيه على الترجمة من الإنجليزية والفرنسية إلى العربية ومن العربية إلى هاتين اللغتين.
وأما القسم الثالث: فيتمرن الطلاب فيه على أعمال الصحافة المختلفة من تحرير وإدارة وتوزيع، وذلك إلى تثقيفهم فى المواد الثقافية.
«العميد»
لقد كان طه حسين نموذجًا لما يجب أن يكون عليه المثقف والمفكر والأكاديمي؛ لم ينتظر توجيهًا أو تكليفًا، بل رأى حاجة وطنه فلبّاها بفكره وقلمه.. كتب حـــين لم يكن أحد يطالبه بالكتابة.. وفكر حين كان الصمت أسهل، وقدم مشروعًا مدروساً لتطوير التعليم والثقافة بالفكرة قبل القرار.
كان مثقفًا وطنيا بالمعنى الأصيل للكلمة،يرى فى المعرفة مسئولية لا امتيازًا وهذا بالضبط ما يُطلب اليوم من كل صاحب علم أو حرفة أو فكرة: أن يعمل قبل أن يُطلب منه، وأن يُسهم فى بناء وعى الناس كلٌّ فى موقعه، فالرئيس لا يطلب من أحد ما هو فوق طاقته، بل يذكر الجميع بدورهم فى حماية وعى الأمة؛ من المعلم فى فصله، إلى الإعلامى فى برنامجه، إلى الباحث فى جامعته، إلى الفنان فى فنه..كل هؤلاء شركاء فى صناعة وعى يليق بمصر.









