قالت الدكتورة غادة والي، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة والمدير التنفيذي لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، إن الجماعات الإجرامية المنظمة تستغل الأدوات الإلكترونية بشكل غير مسبوق، مما يخلّف خسائر وتبعات هائلة تتزايد يوماً بعد يوم، وبات ضرورياً اتخاذ خطوات أكثر حزماً وجديةً على المستوى الدولي للتصدي لهذا التهديد.
وتابعت: “في ظل التطور التكنولوجي الراهن، أصبحت الجماعات الإجرامية العابرة للحدود أكثر مرونة وخطورة، وتعمل من خلال شبكات إقليمية ودولية لتحقيق أرباح طائلة ولغسل عائدات الجريمة. وبفضل التكنولوجيا، تستطيع هذه الجماعات تنفيذ عملياتها من أي مكان في العالم، مستغلة أي ثغرة قانونية أو فنية، مع استهداف الأماكن والأنشطة التي تجلب أكبر الأرباح، بسرعة غير مسبوقة وعلى نطاق واسع لم يكن ممكناً في الماضي.”
أشكال الجريمة السيبرانية المنظمة
أشارت غادة والي إلى أن المجرمين يستخدمون أدوات رقمية لسرقة الأموال والبيانات والمعلومات الحساسة، كما يوظفون التكنولوجيا في ارتكاب الجرائم التقليدية مثل الاتجار غير المشروع وغسل الأموال والاحتيال، ويعرضون أدواتهم وخدماتهم للبيع.
وأوضحت أن الجريمة المنظمة العابرة للحدود تتخذ أشكالاً مختلفة في عصرنا الحديث، منها: الاستغلال الجنسي للأطفال والنساء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتعطيل الخدمات العامة بواسطة الهجمات الإلكترونية، وبيع أخطر أنواع المخدرات في الأسواق السوداء الرقمية، وغيرها.
واستكملت: “تُظهر أبحاث مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أن بعض شبكات الاحتيال بدأت في توظيف الذكاء الاصطناعي لتنفيذ عمليات احتيال تستهدف ضحايا في مختلف أنحاء العالم، مع استخدام العملات الرقمية لغسل عائدات هذه الأعمال الإجرامية. نحن إذن أمام جيل جديد من الجريمة السيبرانية المنظمة، وعلى المجتمع الدولي التكاتف لمواجهته، فبينما تتبنى الجماعات الإجرامية أحدث التقنيات للإفلات من المحاسبة وتعظيم أرباحها الخاصة، لا تزال الجهود الدولية لمكافحة هذه الجرائم غير مترابطة وغير كافية.”
تحديات عالمية متفاوتة
وأضافت أن هذا التحدي يواجه دول العالم كافة. ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، أظهر تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي أن الخسائر الناتجة عن الجرائم السيبرانية ارتفعت بنسبة 33% بين عامي 2023 و2024، لتتجاوز 16 مليار دولار. وفي أوروبا، سجلت وكالة “يوروجست” زيادة بنسبة 25% في عدد قضايا الجريمة السيبرانية خلال نفس الفترة.
وأشارت إلى أنه إذا كانت التحديات ضخمة بالنسبة للدول الغنية، فهي أكثر حدة بالنسبة للدول النامية، حيث تتسارع وتيرة التحول الرقمي في هذه الدول دون استعداد كافٍ لمواجهة المخاطر المصاحبة.
وتابعت: “تُعد منطقة أفريقيا جنوب الصحراء مثالاً واضحاً، حيث يشهد استخدام التكنولوجيا الرقمية طفرة كبيرة، إلا أنه لا توجد سوى خمس دول فقط من المنطقة ضمن الفئة العليا في مؤشر الأمن السيبراني العالمي للاتحاد الدولي للاتصالات”. موضحة أن الجماعات الإجرامية بإمكانها استخدام نظام رقمي تم اختراقه في دولة ما لمهاجمة أنظمة رقمية في دول وأماكن أخرى، وتشير التقارير إلى أن بعض الدول النامية تُستخدم كمواقع اختبار للأساليب والتقنيات المستحدثة للهجمات الإلكترونية.
وأكدت على أهمية رفع قدرات الأجهزة الحكومية والمجتمعات بشكلٍ عام في مواجهة الجريمة السيبرانية، ويشمل ذلك تطوير القوانين والقواعد اللازمة، وتوفير التدريب والأجهزة، وتعزيز التعاون بين الدول. وأضافت: “كما نحتاج إلى رفع الوعي وتحسين الثقافة الرقمية، وتعزيز الوقاية”.
أهمية الاتفاقية الأممية لمكافحة الجريمة السيبرانية
لفتت الدكتورة غادة والي إلى أهمية “اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة السيبرانية”، والتي فُتحت للتوقيع في العاصمة الفيتنامية هانوي يوم 25 أكتوبر الجاري. وقد جاءت هذه الاتفاقية ثمرة مفاوضات استمرت خمس سنوات بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وشاركت فيها نحو 160 جهة من شركات التكنولوجيا ومؤسسات المجتمع المدني والخبراء الأكاديميين.
واعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاتفاقية في ديسمبر 2024، لتكون أول اتفاقية أممية من نوعها تتيح التعاون الدولي وتحمي حقوق الإنسان في مواجهة الجريمة السيبرانية، كما أنها تمثل انتصاراً للدبلوماسية متعددة الأطراف، بدعم من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة الذي قدم الخبرة الفنية والقانونية وكذلك الخدمات التنظيمية لعملية التفاوض.
وتابعت: “بمجرد دخولها حيز التنفيذ، ستكون الاتفاقية أول إطار عالمي لجمع وتبادل الأدلة الرقمية – وهي خطوة حيوية لملاحقة المجرمين الذين يستغلون مرونة العالم الرقمي والفجوات بين تشريعات وإمكانيات الدول المختلفة للهروب من العدالة، حيث ستمكّن الاتفاقية هيئات إنفاذ القانون من التعاون عبر الحدود الوطنية للحصول على الأدلة الرقمية واستخدامها في التقاضي.”
وأوضحت أن الاتفاقية تُعرّف الجرائم بناءً على الأفعال والنتائج بصرف النظر عن التكنولوجيا المستخدمة، مما يضمن فعاليتها حتى مع تطور التكنولوجيا واختلاف أشكال وأدوات الجريمة السيبرانية. وأشارت إلى أن الاتفاقية تخطو أيضاً خطوات كبيرة لحماية ضحايا الانتهاكات الإلكترونية، خصوصاً من النساء والأطفال، من خلال وضع نصوص مخصصة لتجريم نشر الصور الحميمة دون موافقة أصحابها، وأيضاً تجريم استغلال الأطفال جنسياً عبر الإنترنت.
وأكدت أن مواجهة الجريمة السيبرانية تتطلب قدرة جماعية على الصمود والتعاون. وفي هذا الصدد، ستوفر الاتفاقية الجديدة قواعد دولية واضحة ومتفقاً عليها، وإطاراً لتوفير التدريب والموارد لتعزيز الاستجابة للجريمة السيبرانية في جميع أنحاء العالم، وخاصة في الدول النامية. واختتمت قائلة: “نأمل أن تنضم الدول لهذا الإطار الدولي الجديد وتستثمر في مستقبل رقمي أكثر أماناً للجميع. وقد وضعنا في مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة خطة عمل واضحة لتقديم الدعم الفني اللازم للدول لتنفيذ الاتفاقية والاستفادة منها”.









