من شرم الشيخ إلى بروكسل تمتد رحلة مصر نحو استعادة دورها ومكانتها، رحلة تعبّر عن نهضة دولة أعادت اكتشاف ذاتها فى عالم متغير، وأثبتت أن من يملك الإرادة والرؤية يستطيع أن يصنع لنفسه مقعدًا فى الصفوف الأولى من صناعة القرار الدولي. لم تكن محطة بروكسل مجرد زيارة رسمية لرئيس مصرى يشارك فى قمة أوروبية، بل كانت تتويجًا لمسار طويل من العمل المتواصل الذى أعاد لمصر ثقلها السياسى ومكانتها الدبلوماسية وحضورها الفاعل فى محيطها الإقليمى والدولي.
منذ سنوات، بدأت ملامح التحول تتشكل من شرم الشيخ، المدينة التى صارت رمزًا للدبلوماسية المصرية الجديدة، حيث احتضنت مؤتمرات المناخ والسلام والتنمية، وأصبحت منصة تجمع الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب. هناك، فى شرم الشيخ، قدّمت مصر نفسها بصورة الدولة القادرة على جمع العالم حول قضية إنسانية كبري، فكانت صوت العقل فى مواجهة الانقسام والصراع. ومن هناك، مضت إلى بروكسل لتؤكد أن هذا الصوت لا يعرف التردد، وأن مصر، بثقلها وموقعها وتاريخها، عادت لتكون رقمًا صعبًا فى المعادلة الدولية.
فى بروكسل، كانت القصة مختلفة. فالمكان ليس عاصمة أوروبية فحسب، بل هو القلب النابض للاتحاد الأوروبي، ومقر القرار الغربى فى السياسة والاقتصاد والأمن. هناك وقفت مصر بثقة، لا تطلب مكانًا، بل تفرض حضورها بالمنطق والحجة والتاريخ. كانت الرسالة واضحة: أن القاهرة ليست مجرد شريك فى الحوار، بل هى ركيزة أساسية فى استقرار المنطقة، وفاعل رئيسى فى قضايا الطاقة والهجرة والأمن ومكافحة الإرهاب.
فى القاعات المغلقة والاجتماعات الثنائية، لمس الأوروبيون ما يعرفونه جيدًا: أن مصر التى عادت لتتحدث بلسانها الوطنى الحر، تمتلك رؤية واقعية تقوم على توازن المصالح واحترام السيادة ورفض التدخل فى شؤون الآخرين. مصر التى تصون استقلال قرارها، وتعرف متى وكيف تمارس تأثيرها، هى ذاتها التى أثبتت قدرتها على بناء جسور الثقة مع الشرق والغرب فى وقت واحد. وهذا ما جعلها تحظى بتقدير واهتمام متزايد من العواصم الكبرى التى تدرك أنه لا استقرار فى الشرق الأوسط ولا أمن فى المتوسط دون القاهرة.
النجاح الذى شهدته بروكسل لم يكن وليد اللحظة، بل هو حصيلة سنوات من العمل المتراكم، والجهد الصامت، والسياسات المتزنة التى تبناها الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ توليه المسؤولية. فالدبلوماسية المصرية لم تعد تكتفى برد الفعل، بل أصبحت تصنع المبادرة وتطرح الحلول. فى الأزمات الإقليمية من ليبيا إلى غزة، ومن السودان إلى شرق المتوسط، كان الموقف المصرى عنوانًا للاتزان والعقلانية، وهو ما أعاد الثقة الدولية فى قدرة القاهرة على أن تكون رمانة الميزان فى عالم مضطرب.
ومن الناحية الاقتصادية، كانت الصورة موازية. فالدولة التى استطاعت أن تبنى بنية تحتية عملاقة، وتعيد رسم خريطة الاستثمار والطاقة، وتفتح مجالات تعاون جديدة مع أوروبا وأفريقيا والعالم العربي، وجدت فى بروكسل منصة لتأكيد أن مصر لم تعد تبحث عن المساندة، بل عن الشراكة. إنها شراكة الند للند، القائمة على المصالح المتبادلة، لا على المعونات أو المزايدات.
هذه الحيوية الجديدة التى تعيشها مصر، وتنعكس فى كل تحرك خارجي، تعيد إلى الذاكرة زمن الرئيس أنور السادات، الذى أدرك مبكرًا أن السياسة لا تُدار بالشعارات، بل بالرؤية والجرأة والإرادة. وكما كانت القاهرة فى عهده نقطة ارتكاز للقرار العربى وصاحبة المبادرات الكبري، فإنها اليوم، فى عهد الرئيس السيسي، تستعيد الدور نفسه بروح عصرية تتناسب مع تحديات القرن الحادى والعشرين. فالمعادلة تغيرت، لكن الثوابت بقيت: مصر لا تنعزل، ولا تنقاد، بل تقود وتبادر وتحافظ على اتزانها مهما كانت العواصف.
فى محطة بروكسل، شعر كثيرون أن مصر تعود إلى مكانها الطبيعى فى الساحة الدولية، لا كدولة تبحث عن مقعد، بل كصاحبة مقعد دائم فى وجدان العالم. لقد حمل السيد الرئيس السيسى معه إلى أوروبا رسالة شعب آمن بأن التنمية والسلام وجهان لعملة واحدة، وأن من يملك رؤية لمستقبله لا يمكن أن يُستبعد من مستقبل الآخرين. فكان حضوره فى بروكسل امتدادًا لحضوره فى شرم الشيخ، وفى كل المحافل التى تعيد تعريف دور مصر الحديث.
ومع كل خطوة، تتسع دائرة التأثير المصرى من الإقليم إلى العالم، مدفوعة بثقة مكتسبة من الداخل، ورؤية تتجاوز حدود الجغرافيا. لقد أصبحت مصر اليوم، بحق، صوت الاعتدال والتوازن فى عالم يموج بالتناقضات، ومرتكزًا للحكمة فى زمن الاندفاع. من شرم الشيخ إلى بروكسل، تسير مصر بخطى واثقة نحو استعادة كامل دورها، وتؤكد أن من يملك التاريخ لا يخشى المستقبل، وأن هذه الأمة التى أنجبت السادات ورفعت رايات السلام، قادرة اليوم على أن تكتب فصلًا جديدًا فى تاريخ الحضور والتأثير









