فى زمنٍ لم تعد فيه القوة تُقاس بالسلاح ولا النفوذ يُرسم بالجغرافيا، تبرز المعرفة باعتبارها السلاح الأهم فى معركة التنمية. ومن هذا الإدراك المشترك، جاءت اتفاقية «هورايزون أوروبا» لتفتح أمام مصر آفاقاً جديدة من التعاون العلمى والتعليمى والتقنى مع الاتحاد الأوروبي، فى خطوة تعكس عمق الشراكة بين الجانبين وإيمان كلٍ منهما بأن المستقبل لا يُصنع إلا بالعقول، وأن التقدم الحقيقى يبدأ من الاستثمار فى الإنسان.
تُعد هذه الاتفاقية محطة مفصلية فى مسار التعاون بين مصر والاتحاد الأوروبي، إذ تتيح لمصر المشاركة فى أكبر برنامج أوروبى للبحث العلمى والابتكار، والذى تبلغ ميزانيته مئات المليارات من اليوروهات، ويمتد ليشمل كل المجالات الحيوية من الطاقة المتجددة والتحول الرقمى إلى الزراعة المستدامة والذكاء الاصطناعي. وبهذا تصبح مصر الدولة العربية والأفريقية الأولى التى تنضم إلى «هورايزون أوروبا» كشريك متكافئ، لا كمجرد متلقٍّ للتمويل أو الدعم الفني، وهو ما يعكس ثقة أوروبا فى الكفاءات المصرية وقدرتها على الإسهام فى إنتاج المعرفة العالمية لا مجرد استهلاكها.
تفتح الاتفاقية الباب واسعاً أمام الباحثين والعلماء المصريين للانضمام إلى شبكات البحث الأوروبية الكبري، وتُعطى الجامعات والمراكز العلمية فى مصر فرصة للمشاركة فى مشروعات متعددة الجنسيات تخلق بيئة خصبة للإبداع والابتكار. فالتعاون العلمى لم يعد مجرد تبادل للمعلومات، بل أصبح شراكة فى التفكير والإنتاج، تقوم على تقاسم الخبرات وتبادل الرؤى وبناء قدرات مستدامة تتجاوز حدود المعامل والمكاتب.
ولعل أبرز ما تتيحه «هورايزون» هو الانتقال من مرحلة الاعتماد إلى مرحلة التكافؤ، فمصر اليوم لا تدخل هذه الشراكة بوصفها طرفاً يسعى إلى المساعدة، بل كدولة تمتلك قاعدة علمية متنامية، وقطاعاً تعليمياً يسير نحو التحديث، ورؤية وطنية ترتكز على الابتكار والتكنولوجيا كمدخل رئيسى للتنمية. ومن خلال المشاركة فى هذه المنظومة الأوروبية، تتمكن مصر من تعزيز تنافسيتها العلمية وتحديث بنيتها البحثية وربطها بمشروعات عالمية تواكب الاتجاهات الجديدة فى العلوم والتكنولوجيا.
ولا يتوقف التعاون عند حدود البحث العلمي، بل يمتد إلى التعليم والتدريب وتنمية القدرات البشرية. فبرامج مثل Erasmus+ تمثل نموذجاً حياً للشراكة التعليمية بين الجانبين، حيث استفاد آلاف الطلاب المصريين من فرص الدراسة والتبادل الأكاديمى فى الجامعات الأوروبية، مما أتاح لهم الاطلاع على تجارب تعليمية متقدمة ونظم بحثية متطورة. وفى المقابل، استقبلت الجامعات المصرية أساتذة وباحثين من أوروبا نقلوا معهم خبرات ومعارف ساهمت فى تطوير الأداء الأكاديمى وتوسيع آفاق التعاون بين المؤسسات.
هذه الحركة المستمرة من التبادل لا تقتصر على التعليم الجامعى فقط، بل تمتد إلى برامج التدريب المهنى والفنى التى يدعمها الاتحاد الأوروبى فى مجالات متعددة، منها الطاقة والمياه والإدارة والاقتصاد الأخضر. وتهدف هذه البرامج إلى إعداد كوادر مصرية قادرة على مواكبة احتياجات سوق العمل العالمي، وتعزيز دور الشباب فى التنمية الوطنية. فالاتحاد الأوروبى يدرك أن مصر تمتلك ثروة بشرية هائلة، وأن الاستثمار فى الإنسان المصرى هو استثمار مضمون العائد لكل الأطراف.
إن أهمية هذه الشراكة تتجاوز الجانب العلمى أو الاقتصادي، فهى تحمل بعداً إستراتيجياً يعكس المكانة المتصاعدة لمصر على الصعيدين الإقليمى والدولي. فالقاهرة أصبحت اليوم لاعباً محورياً فى قضايا المنطقة، من الطاقة إلى المناخ والأمن والهجرة والتنمية فى أفريقيا. والاتحاد الأوروبى يرى فى مصر شريكاً أساسياً لتحقيق الاستقرار والتنمية فى جنوب المتوسط، وركيزة توازن لا يمكن تجاوزها فى أى معادلة إقليمية. ومن هنا تأتى أهمية اتفاقية «هورايزون» بوصفها جزءاً من رؤية أوسع تقوم على التكامل بين الشمال والجنوب، وتبادل المنافع والخبرات فى إطار من الندية والاحترام المتبادل.
ولأن مصر تتحرك وفق رؤية واضحة للمستقبل، فإنها تنظر إلى هذه الاتفاقية ليس كمشروع مرحلي، بل كأداة لبناء منظومة علمية متكاملة قادرة على دعم الاقتصاد الوطنى وتعزيز موقع الدولة فى خريطة الابتكار العالمية. فالعلم لم يعد ترفاً، والتعليم لم يعد مجرد وسيلة للتأهيل، بل أصبح ركيزة للسيادة والتنمية المستدامة. ومشاركة مصر فى «هورايزون أوروبا» تعنى انخراطها فى تيار عالمى من التعاون العلمى يربط المعرفة بالتنمية، ويضع الإنسان فى قلب المشروع الحضاري.
إن ما يميز التجربة المصرية الأوروبية اليوم هو أنها لا تقوم على المعونات أو الوصاية، بل على الشراكة والتكافؤ والمصالح المشتركة. فمصر تمتلك الإرادة، وأوروبا تمتلك التكنولوجيا، والاثنان معاً يستطيعان بناء جسر من الأمل يمتد من المتوسط إلى العالم. فـ»هورايزون» ليست مجرد اتفاقية، بل عنوان لمرحلة جديدة من التعاون القائم على الثقة والاحترام المتبادل، حيث تتلاقى العقول قبل أن تتلاقى المصالح، وحيث يصبح العلم هو اللغة المشتركة التى توحد بين الشعوب وتفتح أبواب المستقبل.
إن اتفاقية «هورايزون مصر/ أوروبا» ليست مجرد وثيقة تعاون، بل إعلان نوايا لمستقبل أكثر إشراقاً، يؤكد أن الشراكة الحقيقية لا تُبنى على المال فقط، بل على الفكر والإبداع والإرادة. وفى عالمٍ تتغير موازينه بسرعة، تبقى هذه الاتفاقية مثالاً يُحتذى فى كيفية تحويل العلاقات الدولية إلى قوة دافعة نحو التنمية والسلام، وكيف يمكن للعلم أن يكون جسر تواصل حقيقياً بين الأمم، لا ساحة تنافس وصراع. إنها ببساطة، اتفاقية للمستقبل، تُعيد تعريف العلاقة بين مصر وأوروبا على أساس المعرفة والاحترام والمصالح المتبادلة، لتبقى شاهداً على أن العقول حين تتلاقي، تُصنع المعجزات.






