توقفت الحرب ولم توقف عداد القتلى، فقد قتلت إسرائيل منذ عدة أيام 11 فرداً من عائلة واحدة، بزعم أنهم اخترقوا الخط الأصفر أو اقتربوا منه لدرجة الخطر.. بالتوازى، لم تسكت بنادق حماس، إنما يتخذ رصاصها اليوم صفة النار الصديقة، ويسكن صدور منكوبى القطاع، كأن ما فعله الصهاينة بهم طوال عامين ليس كافياً.
أربعة عشر يوماً كاملاً منذ التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، لم تمر لحظة منها دون خبر عن اشتباك أو قتيل، عائلات بكاملها وُضِعت تحت الاشتباه وفى مرمى الاستهداف، والحجة الدائمة أنهم عملاء متعاونون مع العدو، أو قُطّاع طرق وأغنياء حرب يستغلون معاناة المجوّعين ويتاجرون بها.
الهدنة ليست مجرد توقف للرصاص، بل هى لحظة تصفير للعدادات السياسية، يراجع فيها كل لاعب حساباته على ضوء دماء الشهداء وأنين الركام وخرائط القوى الممسوحة بالدم، إنها البوابة إلى مرحلة جديدة أكثر تعقيداً.. فى ساحة المعركة الداخلية، خرجت كتائب القسام وحلفاؤها من تحت الأنقاض بسلاح جديد لا يقل فتكاً عن الصواريخ: مناعة الوعى، ولم تعد المقاومة ظلاً يختبئ فى الأنفاق، بل أصبحت فكرة تسكن العقل الجمعى لأبناء غزة، فكرة تثبت أن الحصار لم يعد سلاحاً فعالاً، وأن الردع لم يعد حكراً على طرف.
أما التحديات التى تواجه الوسطاء وشركاء عملية السلام تأتى مصر «الحارس القديم على البوابة الجنوبية»، تعود القاهرة إلى الواجهة بثقلها التاريخى ودبلوماسيتها الهادئة، لكن دورها اليوم يحمل أبعاداً جديدة، فهى ليست وسيطاً فقط، بل هى لاعب له حساباته: حرب غزة هى حرب على حدودها، وانفجارها تهديد لأمنها القومى، والقاهرة تلعب على حبلين: حبل الضغط على إسرائيل لتخفيف الحصار وإدخال المساعدات، وحبل تهدئة حماس ومنعها من تحويل سيناء إلى ساحة خلفية. . أما الولايات المتحدة، فهى كالعادة تحمل حقيبتين حقيبة الدعم المطلق لإسرائيل، وحقيبة إدارة الأزمة الدولية، لكن فى هذه الجولة، بدت الحقيبة الأولى أثقل بكثيرلقد كشفت الأزمة عن «إفلاس الإستراتيجية الأمريكية التقليدية»
من هنا فإننا فى المرحلة الراهنة امام عدة سيناريوهات:
> السيناريو الأول، هدنة طويلة هشة، فترة من الهدوء غير المستقر، تشهد مزيداً من التفاوض غير المباشر حول رفع الحصار تدريجياً مقابل تهدئة أمنية، هى معركة دبلوماسية كل طلقاتها عبارة عن شاحنات مساعدات وتراخيص بناء وتبادل للأسرى.. لكن شرارة صغيرة كفيلة بإشعال النار مرة أخرى.
> السيناريو الثانى، العودة إلى المربع صفر.. فشل المفاوضات فى تحقيق مكاسب ملموسة لأهل غزة، مما يدفع المقاومة لاختزال المعادلة مرة أخرى، إذا لم يكن هناك حياة كريمة، فلتكن مواجهة كريمة.
> السيناريو الثالث، انفراجة سياسية.. حدوث تحول جذرى فى المعادلة، كدخول قوة دولية حقيقية لفك الاشتباك، أو انهيار التحالف الداخلى الإسرائيلى وانتخاب حكومة تقبل بصفقة تاريخية.. هذا السيناريو الأقل احتمالاً، لكن التاريخ يحب المفاجآت.. فى النهاية، وراء كل هذه التحليلات والسيناريوهات، تبقى الحقيقة الأكثر إشراقاً وتحدياً.. غزة لم تعد مجرد مكان على الخريطة، بل أصبحت حالة فى الضمير، هى فكرة المقاومة التى تثبت أن إرادة الحياة عندما تلتقى بإرادة التحرر، تصنع المستحيل.. قد تتفق الدول أو تختلف، قد تتآمر أو تتواصل، لكن الروح التى أبدعها أطفال الحجارة وأبطال الأنفاق، هى الروح التى ستكتب الفصل الأخير من هذه الملحمة، سواء أرادت إسرائيل وأمريكا ذلك أم لم يريدوا.
فى غزة، كما فى كل مساحات التاريخ الكبرى، يكون المصير الأخير للشعوب هو الفيصل.









