قلت فى الأسبوع الماضى إننى أشعر بـ «مخطط خبيث» وممنهج ومستمر وبدأب منذ سنوات، ليس غايته تقييم الأحداث التاريخية والدينية والقادة والرموز لمصر والعرب والمسلمين، بل التهديم الكامل لكل رمز، سواء كان بطلاً فى الحرب أو زعيماً فى البناء أو مفكراً أوأديباً أوفناناً ومبدعاً.. الخ، وكأن الرسالة الخفية هى: «لم ينتصر المصريون قط، ولم يكن لزعمائهم أى فضل، ولا يوجد ما يستحق أن يكون رمزاً أو قدوة، فلتذهب الكرامة الوطنية إلى أدراج الرياح».
قلت منذ أيام بدأ المسلسل مع بدء احتفالنا بأكبر نصر مصرى وعربى على إسرائيل «انتصار أكتوبر 1973» الذى يكاد يكون الانتصار الوحيد على إسرائيل.. وبدلاً من الأحتفال بالنصر لتتخذه الأجيال الجديدة درسا على القدرة والتحدى، يحاولون تصويره كهزيمة وينقلبون على قائده أنور السادات عبر الانتقاص من أعظم إنجازاته، وبطريقة لا تقل خبثاً عن هجومهم على الزعيم جمال عبد الناصر.
وتتوالى الأسئلة.. هل يجوز لخطاب انتقادى يبدو وطنياً أن يمحو بضربة واحدة كلاً من تأميم قناة السويس، وبناء السد العالى، وإرساء قواعد العدالة الاجتماعية، وقيادة حركة التحرر فى العالم الثالث؟
باختصار تحويل ناصر إلى مجرد «مهزوم فى 67» وحتى الحرب ذاتها كانت عملية مقصودة لتقويض أسس الدولة الحديثة التى أراد بناءها ووقف مشروع نهضتها التى لو استمرت لكنا أحد النمور فى العالم.. هذا ليس نقداً صادقاً لناصر .. مثلما يتم استهداف السادات بتفكيك انتصار أكتوبر المجيد.
نعم ليست هناك قداسة للتاريخ وصناعه، وواجبنا كوطنيين ليس التمجيد الأعمى، بل النقد البنّاء والتقييم المتكامل، ويجب أن نتمتع بالشجاعة الفكرية لتقدير إنجاز ناصر فى التأميم، وفى الوقت ذاته محاسبته على قمع الحريات بدرجة ما، يجب أن نحتفى بنصر السادات فى أكتوبر، وننقده بحزم على أى خلل فى سياسات الانفتاح.
إن تاريخنا هو نسيج واحد لا يمكن تقطيعه: الذى تسبب فى ما حدث فى «67» هو ذاته الذى قاد بناء السد، والذى قرر العبور فى 73 هو ذاته الذى وقع معاهدة السلام.. باختصار مقاومة هذا المخطط تكون عبر الإصرار على الموضوعية الشاملة، ورفض الذاكرة الانتقائية التى تريدنا أن نصبح أمة بلا ماضٍ مجيد يمكن البناء عليه.. فلنتذكر أن الدفاع عن التراب الرمزى لزعمائنا وانتصاراتنا، هو فى جوهره دفاع عن كرامة ومستقبل الأمة المصرية بأسرها.
ليس من الحيدة والموضوعية لأى محلل ومؤرخ ربط أى جدل أو محاولة للانتقاص من نصر حرب أكتوبر 1973 ارتباطًا وثيقًا بالخلافات السياسية التى تلت الحرب أو قبلها بصراعه مع أركان نظام جمال عبدالناصر، وبشكل خاص القرارات التى اتخذها السادات، وعلى رأسها معاهدة السلام مع إسرائيل كامب ديفيد التى يرى المنتقدون لها، خاصة من التيارات القومية والعربية، أن نصر أكتوبر تم تضييعه سياسيًا عبرها و التى أخرجت مصر من دائرة الصراع العربى الإسرائيلى، ورأوا فى هذا الاتفاق انتقاصًا من قيمة التضحية العسكرية الكبرى التى حققها الجنود.
كل هذا يجعلنا نفكر بعد هذه السنوات بوضع سياسة السادات التى قد نختلف معها فى خانة «الواقعية السياسية»، بمعنى أن النصر العسكرى كان هدفًا محدودًا لـ»تحريك المياه الراكدة» واستعادة الأرض المحتلة، وأن الحل العسكرى الكامل لم يكن ممكنًا فى ظل الدعم الأمريكى لإسرائيل اللامحدود وعدم قيام الاتخاد السوفيتى بنفس الدور مع مصر وسوريا.
نعم من حق المنتقدين اعتبار هذه «الواقعية السياسية» تراجعًا عن الأهداف الكبرى للصراع العربى الإسرائيلى.. لكن ما حدث بعد ذلك قد نرى ما فعله السادات كان الهدف منه صالح المصلحة المصرية إذا تفحصنا الواقع الآن!
وإذا كان عزل مصر عربيًا كان ثمن معاهدة السلام مما اعتبره البعض بمثابة هزيمة جزئية أو ثمنًا باهظًا للنصر العسكرى.. يكون السؤال وما يحدث الأن ألا يرد الاعتبار للسادات مع عدم إغفال النطاق التاريخى طبعاً؟!
ما يروجه البعض لما حدث فى «الثغرة» «الدفرسوار» ورأى الفريق سعد الدين الشاذلى رئيس الأركان آنذاك والخلافات حول التخطيط والتنفيذ، وقرار الهجوم الموسع وإعادة نشر القوات المدرعة.. الخ، الهدف من الترويج لذلك ليس التاريخ والتحليل لكن الهدف خبيث لتشويه صورة النصر الكامل، رغم أن هذه الخلافات هى جزء طبيعى من أى تجربة حربية معقدة.
إلا ترون معى ان هذه المخططات بعد تجاوزها حدود الدرس والتحليل تندرج فى خانة الأكاذيب المضادة القادمة من الجانب الإسرائيلى لتقزيم النصر المصرى السورى «والتى يسمونها «الزلزال»» وتحويله إلى «انتصار إسرائيلى» فى نهاية المطاف، نعم هى «حرب نفسية» تهدف إلى إبطال الأثر الإستراتيجى والعسكرى الذى كسر أسطورة «الجيش الذى لا يُقهر». لكنها تأتى للأسف ليس من العدو وحده ولكن من أعوانه الذين يسكنون تحت الجلد المصري!!
وللحديث بقية









