في الديمقراطيات العريقة تقاس قوة البرلمانات بقدرتها على المساءلة والرقابة وجودة التشريع، وهناك علاقة طردية بين قوة أي برلمان وقوة العلاقة بين نوابه وقواعدهم الانتخابية وتمثيلهم لكل فئات المجتمع وتعبيرهم عن كافة الأطياف بلا تحيز أو انتقاص وبقدر ما تكون هناك منافسة قوية بين المرشحين مستقلين وحزبيين بقدر ما تفرز تلك المنافسة نوابًا بحجم الوطن وهمومه وطموحاته أما الأحزاب فلا تكتسب حيويتها إلا بالتنافس والانخراط في غمار السياسة، لا بالعزوف أو المقاطعة. فالممارسة السياسية ليست ترفًا، بل ركيزة من ركائز استقرار الدول. وإذا كنا نرفض التزوير وشراء الأصوات، فجدير بنا أيضًا أن نرفض الدعوة إلى المقاطعة ما دامت الانتخابات تُجرى في إطار من الشفافية والإشراف القضائي الكامل، لأن الديمقراطية لا تنضج إلا بالتجربة، ولا تُصلح أخطاءها إلا الممارسة المتكررة.
كنت أرجو أن تنهض مؤسسات البحث والدرس بعمل استطلاع رأي يقيس مدى رضاء الناس عن النواب السابقين، فالبرلمان هو محصلة الاختيار الحر للشعب، ويفترض أنه قائد حركة التغيير وتقويم أداء الحكومات ومحاسبتها ومساءلتها..!!
وليعلم المرشحون والقوائم أنهم أمام مهمة صعبة جداً سواء في تحفيز أبناء دوائرهم على المشاركة والتصويت في انتخابات مجلس النواب التي باتت على الأبواب، أو في ممارسة الدور الرقابي والتشريعي استلهاماً لطموحات الشعب وآماله وتعويض ضعف تأثير الأحزاب في الشارع السياسي وضعف المعارضة الوطنية.
الوطن اليوم في حاجة إلى أن يسهم كل فرد من أبنائه بجهده وفكره وصوته، لأن التنمية لا تُبنى بالشعارات، بل بالعمل والإنتاج والمشاركة الواعية. فالصوت الانتخابي ليس مجرد إجراء روتيني، بل أمانة يترتب عليها مستقبل أمة بأكملها. إنه الصوت الذي يضع المرشح المناسب في مكانه الصحيح، ويغلق الباب أمام المال السياسي ومحاولات شراء الذمم، ويضمن أن يكون البرلمان القادم معبرًا بحق عن نبض الشارع، لا عن أصحاب المصالح والنفوذ.
لكن قبل أن نبدأ صفحة جديدة، يجب أن نطرح على أنفسنا أسئلة لا مفر منها: هل رضي المواطن حقًا عن أداء البرلمان السابق؟ وهل شعر بأن صوته أتى بمن يستحق تمثيله؟ أم أن المسافة بينه وبين نوابه كانت أوسع مما ينبغي؟ وهل أنتج البرلمان السابق تشريعات تراعي احتياجات المجتمع وتخدم مصالح الدولة أم سارت في مسارات أخرى لم تكن في أحسن حالاتها؟
هذه الأسئلة يجب أن تكون نصب أعين المرشحين الجدد وهم يخطون أولى خطواتهم نحو مقاعد البرلمان، حتى يتفادوا أخطاء سابقيهم ويستعيدوا ثقة المواطن التي هي رأس مال السياسي الحقيقي.
المطلوب اليوم برلمان جديد يدرك حجم التحديات التي تواجه الدولة والمجتمع، ويقترب من الناس في معاناتهم، ويصغي لنبضهم بإخلاص، فيشرّع بحكمة ويراقب بضمير. برلمانٌ يدرك أن الشعب لا يريد وعودًا فضفاضة، والنواب بل يريد اقتصادًا متعافيًا، واستثمارات متدفقة، وفرص عمل حقيقية، وأسعارًا منضبطة، وعدالة اجتماعية تحفظ كرامة المواطن وتضمن له حياة كريمة.
نريد برلمانًا يحترم الدستور وسيادة القانون، ويكفل التوازن بين السلطات، ويؤمن بأن الكفاءة والعلم لا الولاء الشخصي هما معيار الاختيار. برلمانًا لا تستهويه سطوة النفوذ، ولا تغريه فتنة الوجاهة والحصانة ومغانم العضوية، برلمانا يسمع للجميع ويعدل بينهم، ويقف على مسافة واحدة من كل فئات المجتمع، واضعًا نصب عينيه أن الأمن القومي لا يُصان إلا بعدالة اجتماعية شاملة، وأن قوة الدولة تبدأ من ثقة المواطن في مؤسساتها.
كمــا نـريده برلمــانًا يستلهـم رؤية السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى في بناء دولة عصرية رقمية، تحارب البيروقراطية وتواجه الفساد الإداري، وتسعى لتقليل المعاناة عن كاهل المواطن بميكنة الخدمات وإنجازها بسرعة وكفاءة. برلمانًا يحتضن أصحاب الخبرة والعلم، ويدرك أن الإنسان هو الثروة الحقيقية للأوطان، وأن العدالة لا تقتصر على توزيع الموارد، بل تمتد إلى تنمية القدرات وتوليد الفرص وتحقيق تكافؤ حقيقي.
ويتعين على البرلمان الجديد أن يجعل التعليم الجيد والبحث العلمي المنتج والصحة العفية للشعب في مقدمة أولوياته، لأن الجهل والمرض والعشوائية هي أعداء التنمية الثلاثة. كما يجب أن يدعم البرلمان الدولة في مشروعاتها القومية الكبرى التي تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والطاقة والدواء، ويشاركها حماية أمنها المائي والقومي ومكانتها الإقليمية والدولية.
أما أحزابنا السياسية، فمدعوة إلى أن تنهض من سباتها الطويل، وتستعيد دورها التاريخي كمدرسة لتأهيل الكوادر وضخ الدماء الجديدة في شرايين الحياة السياسية. فالمناصب ليست غنائم ولا سبوبة، بل مسؤوليات وأمانات. والأحزاب التي لا تمارس الديمقراطية داخلها لن تستطيع المطالبة بها خارجها.
لقد قدّم الرئيس السيسى نموذجًا ملهمًا في تقديس العمل وتكريم المخلصين من العلماء والعمال والمبدعين والمرأة الكادحة، مؤكدًا أن كل يد تعمل بصدق تستحق الاحترام، وكل عقل يبدع يستحق التقدير. وعلى النواب والمسؤولين أن يستلهموا هذا النهج، فينزلوا إلى الناس، يسمعونهم ويصارحونهم بما يواجه الوطن من تحديات. فالصراحة تولد الثقة، والشفافية تقطع الطريق على الشائعات التى تستهدف وعي المواطن.
ولذلك فإن بناء رأي عام واعٍ ومستنير يقتضي حوارًا دائمًا بين البرلمان والحكومة والشعب، بلغة مبسطة صادقة لا تزيف الوعي ولا تبيع الأوهام. إن الوطن لا ينهض بطرف دون آخر، ولا يستقر إلا بتكامل الأدوار وتوزيع المسؤوليات.
ويبقى السؤال: هل سيتعلم البرلمان الجديد من تجارب الماضي؟ هل سيقيس رضى المواطن أولًا بأول؟ وهل سيتحول من منبر للجدل السياسي إلى أداة فاعلة للرقابة والتشريع وخدمة الناس؟
الناس تحتاج إلى نواب يعبرون بحق عن نبض الناس، يقتربون من همومهم، يتلمسون احتياجات الناس في استجواباتهم وبياناتهم وتشريعاتهم، حريصين على رقابتهم، قادرين على تحويل ثقة الشعب إلى إنجازات واقعية. فالوطن لا ينتظر الخطب، بل ينتظر أداءً صادقًا وإرادة حقيقية. والشعب، وهو الرقيب الأول، لن يرضى بغير برلمان يليق باسمه وتاريخه وطموحاته.









