تعيش مصر اليوم، مثلها مثل كثير من دول العالم، تحدياً استراتيجياً يتمثل فى كيفية إدارة مواردها البشرية الماهرة فى ظل ارتفاع عدد المصريين المقيمين بالخارج من نحو 2.7 مليون فى عام 2013 إلى أكثر من 14 مليون في عام 2023، وهو ما يعكس حجم الظاهرة وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع معاً. ورغم ما تدره تحويلات المصريين من عملة صعبة بلغت 36.5 مليار دولار في العام المالى 2024/2025، بزيادة قدرها 66% عن العام السابق، والتى ساهمت فى دعم استقرار الاقتصاد الكلى، فإن السؤال الجوهرى يظل قائماً: كيف نجعل من مغادرة الكفاءات فرصة تنموية قومية بدلاً من مجرد انتقال؟
فى الحقيقة هذه ليست معضلة مصر وحدها، بل ظاهرة عالمية. تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن عدد المهاجرين الدوليين بلغ 304 ملايين شخص منتصف عام 2024. أى ما يعادل 3.7% من سكان العالم. وفى بعض الدول النامية تصل نسبة هجرة أصحاب الشهادات العليا إلى40% أو أكثر. أيضاً بحسب بيانات المفوضية الأوروبية، فإن 30% من سكان الاتحاد الأوروبى فى سن العمل يفكرون في الهجرة، بينما يعيش أكثر من 10.2 مليون شخص فى بلد أوروبى غير بلد جنسيتهم. وقد حددت المفوضية 82 منطقة أوروبية بين مناطق جاذبة للكفاءات وأخرى فاقدة لها.
يتضح من ذلك أن هجرة العقول قضية عالمية، لا تُعالج بالمنع بل بالإدارة الذكية. وهنا يبرز مفهوم “إدارة المواهب ” Talent Management وهو مصطلح يشير إلى السياسات والممارسات التى تهدف لاكتشاف الأفراد ذوى القدرات المتميزة وتطويرهم واستبقائهم داخل المؤسسات أو الدول. لا تقتصر على التوظيف أو التدريب فقط، بل تشمل بيئة عمل جاذبة ومسارات مهنية وحوافز تدعم البقاء. وعلى المستوى القومى، تعنى بناء منظومة تحافظ على الكفاءات فى الداخل وتستفيد من خبرات المهاجرين بالخارج عبر برامج ربط وتوطين. لذلك بات خيارًا استراتيجيًا لا غنى عنه للدول الساعية لبناء مستقبل تنافسى ومستدام.
لم تعد هجرة العقول مقصورة على القطاعات التقليدية، فالمستقبل يفرض تحدياً جديداً يتمثل فى العقول الرقمية، من خبراء الذكاء الاصطناعى وعلوم البيانات، الذين سيحددون موقع الدول فى الاقتصاد العالمى القادم. ومن لا يضع خطة لاستيعابهم والاحتفاظ بهم سيواجه تحدياً أشد خطورة. وهنا تكتسب إدارة المواهب بعداً جديداً، إذ أصبحت مرتبطة بقدرة مصر على قيادة الثورة التكنولوجية المقبلة وتحديد موقعها فى الاقتصاد العالمى.
فى الحقيقة أظهرت المؤشرات الدولية أن مصر قطعت خطوات ملموسة فى إدارة المواهب وتعزيز التنافسية والابتكار. ففى مؤشر التنافسية العالمية 2023 تقدمت مصر من المرتبة 95 إلى 87، كما حافظت فى مؤشر الابتكار العالمى 2025 على موقعها عند المركز 86 عالمياً، مع أداء يفوق متوسط الدول المماثلة فى رأس المال البشرى والبحث العلمى. ويؤكد ذلك أن مسار التطوير قد بدأ بالفعل، لكنه ما زال يحتاج إلى إدارة أكثر كفاءة وبرامج وطنية طويلة الأجل لتوطين الكفاءات وتحويل المعرفة إلى قيمة اقتصادية مضافة.
هجرة العقول بين المكتسبات والمخاطر
ليست هجرة العقول خسارة مطلقة، فهى بجانب التحويلات المالية تفتح قنوات لنقل المعرفة وبناء شبكات مهنية دولية تفيد الاقتصاد المحلى، كما تعزز صورة الوطن عالمياً. ويسهم المهاجرون فى مشروعات خيرية وتعليمية، ويعود بعضهم بأفكار جديدة تُحدث أثراً اجتماعياً. كذلك منحت الهجرة المرأة والشباب فرصاً أوسع للتمكين والاندماج فى أسواق العمل العالمية.
لكن الهجرة تكشف أيضاً عن مخاطر مهمة. فهى قد تُضعف الروابط الأسرية والهوية الوطنية، وتُفاقم تحديات الهجرة غير الشرعية بما تحمله من مخاطر إنسانية وسياسية. كما يترك خروج الكفاءات فجوات فى قطاعات حيوية كالتعليم والصحة والتكنولوجيا. وإذ تركز الدول المتقدمة على جذب أصحاب المهارات النادرة، يصبح إدارة المواهب خياراً استراتيجياً لمصر لحماية كفاءاتها من الاستقطاب الخارجى.
من الجهود الحالية إلى برامج التوطين
لم تبدأ مصر من فراغ فى إدارة ظاهرة الهجرة، فقد أطلقت جهوداً عملية مثل مؤتمرات “مصر تستطيع” التى تربط العلماء بالخارج بالمشروعات القومية، وإنشاء قاعدة بيانات للمصريين بالخارج، ودعوة أساتذة من المهجر للتدريس والإشراف، إضافة إلى برامج “مصر الرقمية” و”بناة مصر الرقمية”. هذه الخطوات تمثل تطبيقاً عملياً لإدارة المواهب عبر استبقاء الكفاءات أو إعادة ربطها بالوطن جزئياً.
لكن هذه المبادرات، رغم أهميتها، لا تكفى وحدها. فالتجارب الدولية الناجحة تثبت أن التعامل مع هجرة العقول يتطلب برامج توطين شاملة طويلة الأجل، تستند إلى رؤية واضحة مثل رؤية مصر 2030، وتخلق بيئة جاذبة تجعل العودة قراراً طبيعياً. وقد قدمت الصين نموذجاً بارزاً عبر برنامج “الألف موهبة” الذى استقطب آلاف العلماء وعاد بثمرات تكنولوجية مباشرة، بينما أعادت كوريا الجنوبية كفاءاتها المهاجرة حتى أصبحت دولة رائدة، أما الهند فبنت بيئة تكنولوجية جذبت العقول المهاجرة وأسست شركات كبرى تنافس عالمياً.
إن الانتقال من المبادرات الحالية إلى برامج توطين مستدامة أصبح ضرورة قومية لمصر. هذه البرامج من الضرورى أن تشمل تطوير التعليم والبحث العلمى، وتحسين بيئة الأعمال، وتبنى سياسات تحمى حقوق المبدعين. وفى هذا السياق جاء قانون العمل رقم 14 لسنة 2025 ليعزز الحماية من الفصل التعسفى ويعترف بـأنماط العمل الحديثة فى خطوة مهمة لتحسين البيئة الداخلية ودعم الكفاءات الوطنية. ومع التقدم الذى أحرزته مصر فى مؤشرات المواهب والابتكار خلال السنوات الخمس الأخيرة، يبقى التحدى هو الانتقال من الخطوات الجزئية إلى استراتيجية وطنية شاملة لتوطين الكفاءات. باعتبار أن برامج التوطين خيار استراتيجى يرتبط بالأمن القومى ومستقبل مصر الاقتصادى.
إدارة المواهب كخيار استراتيجى: ترجمة عملية فى مصر
إدارة المواهب لم تعد شعاراً، بل أصبحت ضرورة وطنية تُترجم إلى استراتيجية شاملة وعملية تمتد إلى التعليم والعمل والهجرة والبحث العلمى. هذه الاستراتيجية تنطوى على ثلاثة محاور رئيسية: جذب الكفاءات، وتطويرها، واستبقائها. فـجذب الكفاءات يكون من الداخل والخارج معاً، عبر حوافز موجهة للعقول العائدة، وبرامج زمالات ومنح بحثية، إلى جانب تعزيز صورة مصر عالمياً كوجهة للبحث والتطوير والابتكار. أما تطوير الكفاءات فيتحقق من خلال أكاديميات وطنية متخصصة فى المجالات الاستراتيجية، وزيادة البعثات العلمية، والتوسع فى برامج التعليم والتدريب المستمر لبناء قدرات تنافسية مستدامة. فى حين أن استبقاء الكفاءات يكون من خلال تحسين الأجور والامتيازات، وتبنى أنظمة ترقيات عادلة، وتوفير بيئة عمل مرنة ومحفزة على الإبداع. ولتحقيق التكامل، تتطلب هذه المنظومة تفعيل إدارة الأداء، وإعداد خريطة وطنية للمهارات. فإدارة الأداء تتم عبر مؤشرات وطنية لقياس الإنجاز وربط التمويل بالنتائج، إلى جانب جوائز وطنية تعزز التنافسية. أما الخريطة الوطنية للمهارات فيجب إعدادها لكى تتماشى مع رؤية مصر 2030 وتشمل التوسع في الجامعات التكنولوجية وإعداد قادة المستقبل. وأخيراً يظل الحفاظ على الهوية المصرية هو الإطار الجامع لهذه الرؤية الاستراتيجية لضمان بقاء ارتباط الكفاءات المصرية بالخارج من خلال برامج ربط مستدامة ومبادرات ثقافية وتعليمية. وبذلك تتحول إدارة المواهب إلى خيار استراتيجى متكامل يضع الإنسان المبدع فى قلب التنمية المستدامة لمصر.
الخلاصة
إن الهجرة ليست ظاهرة تُمنع، بل مشكلة تُدار بوعى ومرونة. وإذا وضعت مصر سياسات قصيرة الأجل لحماية قطاعاتها الحيوية، ورؤية طويلة الأجل لتوطين العقول واستثمارها محلياً، فإن ما يبدو اليوم خروجاً للكفاءات قد يصبح غداً رصيداً استراتيجياً يعيد رسم موقعها فى الاقتصاد العالمى. وهكذا تصبح إدارة المواهب خياراً استراتيجياً لمستقبل مصر وأساس قدرتها على تحويل الهجرة من تحدٍ إلى مصدر قوة.