أعلن الدكتور علي أبو سنة، رئيس جهاز شؤون البيئة، عن قرب الإعلان عن محمية “الأرخبيل المرجاني الأعظم” في البحر الأحمر، وهي الأولى من نوعها عالمياً، لحماية الشعاب المرجانية بطول 1300 كيلومتر في مواجهة تغير المناخ، لتكون المحمية الحادية والثلاثين من محميات مصر.
لكن هل محميات مصر محمية فعلاً من التعديات والسرقات؟ وقبل أن نجيب عن هذا السؤال، دعونا نلقِ نظرة على أبرز التعديات التي حدثت خلال السنوات العشر الماضية.
شواهد على جحيم التعديات.. من المرجان إلى الرمال
في صمت البحر الأحمر، حيث تلتقي الجبال بالرمال وتلمع المياه بلون الفيروز، دارت واحدة من أخطر القصص التي عاشتها المحميات الطبيعية في مصر خلال السنوات العشر الأخيرة. حكاية بدأت همساً وانتهت بصرخة، تحكي عن جمال يُنْهَبُ ببطء، وطبيعة تستغيث من عبث الإنسان.
في أحد أيام عام 2024، ومن شاطئ “حنكوراب” داخل محمية وادي الجمال بمرسى علم، استيقظ العاملون بالمحمية ليجدوا خياماً تُقام على الرمال البيضاء، ومعدات ثقيلة تدخل في وضح النهار. لم يحتمل حُرَّاس المحمية المشهد، فسارعوا بتقديم بلاغ رسمي. وصلت القضية إلى المحكمة التي حكمت بإزالة التعديات وتغريم المتورطين. كان الحكم أشبه بإنصاف للطبيعة التي صمتت طويلاً، لكنه أيضاً كشف حجم الخطر الذي يهدد كل المحميات في مصر.

الصيد الجائر يمتد من البحر إلى اليابسة
في البحر ذاته، وعلى بعد كيلومترات قليلة، كانت جريمة أخرى تُرتكب بهدوء أشد. الغواصون الذين يفترض أنهم يأتون للاستمتاع بعالم الشعاب المرجانية، أصبح بعضهم يقطع المرجان ويبيعه قطعاً صغيرة تُعْرَضُ في أسواق الديكور. المرجان الذي احتاج قروناً لينمو، يُنتزع في لحظة. لم يكن الأمر مجرد مخالفة، بل خيانة للجمال نفسه. وفي الليل، كانت القوارب الصغيرة تخرج للصيد الجائر بشباك محظورة، تجر كل ما في طريقها، فلا تُبْقِي ولا تذر.
في مناطق أخرى من البحر الأحمر وسيناء، كانت محميات رأس محمد ونبق تعاني من نفس الوجع. الصيد بالمتفجرات والسموم حوَّلَ مساحات من البحر إلى مقابر صامتة للأسماك والسلاحف والدلافين. كان بعض الصيادين يقولون إنهم يفعلون ذلك من أجل لقمة العيش، لكن غياب الرقابة الفعالة جعل “العيش” يتحول إلى “فناء”، وأصبح البحر الذي كان يمنح الحياة مصدرًا للخطر.

الاعتداءات لم تتوقف عند البحر، بل امتدت إلى اليابسة. ففي محمية وادي دجلة بالقاهرة وسانت كاترين في سيناء، كانت الاعتداءات من نوع آخر، متمثلاً في تلوث ناتج عن أنشطة عمرانية وزحف حضري غير منظم، ومياه صرف تُلْقَى دون معالجة، ومشروعات تقطع الطرق أمام الكائنات البرية النادرة. الطيور المهاجرة التي كانت تجد في تلك المحميات ملاذاً آمناً في رحلتها الطويلة، بدأت تهجرها، وكأنها فهمت قبل البشر أن المكان لم يعد كما كان.
تحرك حكومي بطائرات “الدرون” ووعي متزايد للشباب
لكن رغم كل ذلك، لم تكن الصورة قاتمة تماماً. في منتصف عام 2025، بدأ جهاز شؤون البيئة خطة جديدة لحماية المحميات، تضمنت تعيين أكثر من ثلاثة وتسعين باحثاً ومراقباً بيئياً للعمل في الميدان، وتدريبهم على أحدث أساليب الرصد والمراقبة. بدأت الوزارة في استخدام طائرات بدون طيار لرصد التعديات مبكراً، وتحديث الخرائط القانونية للمحميات حتى لا تضيع حدودها وسط أوراق الاستثمار. كانت الخطوة أشبه بجرعة أمل بعد سنوات من النزيف البطيء، كما زاد وعي الشباب الذي أصبح يدرك أن حماية الطبيعة ليست رفاهية، بل ضرورة للبقاء.
ولكن إلى متى تظل الطبيعة تدفع ثمن طمع الإنسان؟ المحميات ليست مجرد أراضٍ أو شواطئ، بل هي ذاكرة الوطن البيئية، و الشاهد على تاريخ الأرض، وعلى قدرتها على البقاء رغم كل ما يُرتكب بحقها.
نداء الخبراء: طيور الملايين تدفع ثمن السمعة البيئية
ورغم ما تمتلكه مصر من ثراء بيئي فريد يمتد من رفح شرقاً إلى السلوم غرباً، فإن الصيد الجائر والأنشطة البشرية غير المنظَّمة باتت تهدد التنوع البيولوجي في محمياتها الطبيعية وبيئاتها الساحلية، لتتحول السواحل التي كانت يوماً ممرات آمنة للطيور المهاجرة إلى ساحات مفتوحة للمذابح، تُبث صورها على مواقع التواصل الاجتماعي فتشوه صورة مصر أمام العالم.

حذر الدكتور شريف بهاء الدين، الخبير المعروف في مجال حماية البيئة، ورئيس جمعية حماية الطبيعة، من تزايد ظاهرة الصيد الجائر في مناطق تجمع الطيور المهاجرة، مؤكداً أن الصيد بالشكل الحالي أصبح تجارياً ضخماً يُمارَس بالملايين وبالطن للطيور بكافة أنواعها، في مشهد يضر بسمعة مصر البيئية أمام المجتمع الدولي.
ويضيف أن الحل يبدأ من حماية البيئات المختلفة ومنع نشر الصور السلبية عن تلك الجرائم، لأن “السياح عندما يشاهدون تلك المشاهد عبر السوشيال ميديا، يأخذون انطباعاً أن مصر دولة لا تحترم الحياة البرية، وهذا غير صحيح على الإطلاق”.
ويقترح د. شريف الاستعانة بقوات حرس الحدود لمراقبة السواحل الشمالية الممتدة، مؤكداً أن “طبيعة عملهم على الشريط الساحلي تمكنهم من لعب دور فعال في مكافحة الصيد الجائر للطيور، كما حدث في تنظيم عمليات صيد الأسماك”. كما يشدد على ضرورة “إنشاء منظومة واضحة ومتكاملة” تضمن المتابعة المستمرة للمناطق الحساسة، وإطلاق مبادرات مثل مهرجان مشاهدة الطيور في أسوان ومرصد الجلالة لنشر الوعي بأهمية الطيور في الحفاظ على التوازن البيئي، مشيراً إلى أن “الطيور تقوم بوظيفة بيئية تساوي ملايين الدولارات في مكافحة الآفات والتوازن الطبيعي”.

قانون صارم وعقوبات تصل للسجن المشدد
أما الدكتور عمرو هيبة، معاون وزير البيئة السابق وعضو الاتحاد العربي لحماية الحياة البرية والبحرية، فيؤكد أن مصر كانت من أوائل الدول التي سنت قانوناً لحماية الطبيعة من خلال القانون رقم 102 لسنة 1983، وهو من أكثر القوانين صرامة في المنطقة، إذ تصل العقوبات فيه إلى السجن المشدد والمصادرة والغرامات الكبيرة، تبعاً لتقدير حجم الضرر البيئي.
ويقول د. هيبة: “القانون المصري متقدم جداً، وقد استلهمت منه دول أخرى نصوصاً لحماية المحميات لديها. لكنه يحتاج إلى دعم في التنفيذ عبر زيادة عدد الباحثين والحراس، لأن الأعداد الحالية لا تكفي لتغطية أكثر من 30 محمية تمثل نحو 15% من مساحة الجمهورية”.
ويقترح دكتور عمرو هيبة تأسيس وحدة خاصة لحماية المحميات تتبع القوات المسلحة باعتبار أن “المحميات الطبيعية أمن قومي وخط أحمر”، مشدداً على أن “العبث بالثروات البيئية جريمة لا تقل خطورة عن التعدي على الموارد الاقتصادية للدولة”.

تهديد “الجمري” واصطياد الطيور بألواح الطاقة الشمسية
ومن جانبه، يرى الدكتور خالد النوبي، المدير التنفيذي للجمعية المصرية لحماية الطبيعة، أن الوضع في بعض مناطق الصيد أصبح “كارثياً بكل المقاييس”، موضحاً أن “الطيور تُقْتَلُ بالملايين كل موسم، وأهمها طائر الجمري المهدد بالانقراض في أوروبا”.
ويشير إلى أن الصيد يتم باستخدام ألواح طاقة شمسية متصلة بأجهزة تصدر أصواتاً تجذب الطيور، لتسقط فريسة سهلة في الشباك والبنادق المنتشرة بين الأشجار. ويقول النوبي: “الظاهرة خرجت عن السيطرة، هناك شباك تمتد على مسافات شاسعة من الساحل الشمالي الغربي، وكل من يمر من الطيور يواجه جحيماً من الفخاخ والأصوات الصناعية”.
ويحذر من أن هذه الممارسات لا تهدد الطيور فقط، بل تدمر النظام البيئي المتكامل الذي تعتمد عليه الزراعة والتوازن الطبيعي، مشدداً على أن “قتل الطيور بهذا الشكل ليس مجرد جريمة بيئية، بل جريمة اقتصادية أيضاً، لأن خسارة التوازن البيئي تكلف الدولة ملايين الجنيهات في مكافحة الآفات وحماية المحاصيل”.
صرخة الخبراء ليست مجرد تحذير بيئي، بل نداء وطني لإنقاذ ما تبقّى من طبيعة مصر الساحرة قبل أن تلتهمها شباك الصيد الجائر وتتحول المحميات من ملاذ آمن إلى ساحة جريمة في حق الحياة.









