فى عالم تتسارع فيه التكنولوجيا وتتشابك فيه المنصات وتتنافس فيه الأصوات على كسب المتابعين، لم يعد المحتوى الدعوى شأنًا خاصًا بالمؤسسات الدينية أو العلماء فحسب، بل أصبح جزءًا من الفضاء العام الذى تصنعه الخوارزميات ويتحكم فيه «الترند». هذا التحول العميق فى بيئة الخطاب الدعوى هو ما يدفعنا إلى التوقف أمام الدراسة الميدانية التى يجريها الدكتور سامح عبد الغنى، الأستاذ بجامعة الأزهر، حول «آليات الضبط المهنى والأخلاقى للمحتوى الدعوى الرقمى»، والتى تعد واحدة من أهم المحاولات العلمية الجادة لفهم طبيعة هذا التحول وتأثيراته.
وقد تشرفتُ بالمشاركة فى هذه الدراسة من خلال ملء استمارة الاستبيان التى أعَّدها الباحث ضمن أدواته الميدانية، وهى تجربة أتاحت لى التأمل فى عمق الأسئلة المطروحة، ومدى تماسها مع الواقع الإعلامى والدعوى الراهن. ومن خلال تلك المشاركة البحثية وقراءتى لموضوع الدراسة، وجدت أن ما يطرحه الدكتور سامح عبد الغنى لا يقتصر على الجانب الأكاديمى، بل يتصل مباشرة بجوهر رسالتنا الإعلامية ومسئوليتنا المهنية تجاه الخطاب الدعوى فى الفضاء الرقمى.
لقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعى اليوم منابر دعوية مفتوحة لا تعترف بالحدود ولا تفرّق بين المؤهل وغير المؤهل، وبين الاجتهاد الرصين وبين البحث عن الشهرة السريعة. ومع غياب الضوابط المهنية وضعف المرجعية الفكرية، بدأنا نرى نوعًا من الفوضى الخطابية التى تخلط بين الوعظ والتسويق، وبين الدين والمحتوى الترفيهى. هذه الفوضى لا تمس فقط القيم الأخلاقية، بل تهدد مصداقية الرسالة الدعوية نفسها، وتُحدث تشويشًا فى وعى الشباب الذين يتلقون خطابًا متناقضًا فى المضمون والأسلوب.
دراسة الدكتور سامح عبد الغنى تأتى فى توقيت بالغ الحساسية؛ إذ تحاول إعادة ضبط العلاقة بين الرسالة الدينية والوسيلة الإعلامية فى ضوء نظرية المسؤولية الاجتماعية. فالدعوة فى جوهرها مسئولية، والإعلام فى جوهره تأثير، وعندما يلتقيان فى فضاء رقمى بلا حواجز يصبح من الضرورى وجود معايير مهنية وأخلاقية تحكم هذا التفاعل حتى لا يتحول الوعظ إلى «محتوى» بلا عمق ولا مسئولية.
لقد أفرزت التجربة الرقمية واقعًا جديدًا فرض على المؤسسات الدعوية أن تراجع أدواتها وأن تعيد تعريف «الداعية» بما يتناسب مع طبيعة الجمهور الرقمى. فالداعية المعاصر لم يعد فقط منبرًا يعتليه الخطيب، بل صار صانع محتوى ومؤثرًا رقميًا عليه أن يجيد فنون التصوير والتحرير والتفاعل واللغة البصرية، دون أن يفقد جوهر الرسالة ومصداقية الكلمة.









