عاش جمهور مهرجان الجونة السينمائي الدولي في دورته الثامنة، التي تستمر إلى 24 أكتوبر، ليلتين من أقوى الليالي الفنية والإنسانية، حيث شهد المهرجان عرض فيلمين مصريين بارزين، لكل منهما نكهته الخاصة ورؤيته الجريئة، لكن ما يجمع بينهما هو صدق الطرح، والجرأة في تناول العلاقات الإنسانية، والسعي لاستخدام السينما كأداة لكشف المسكوت عنه، سواء داخل الأسرة أو في المجتمع.
الفيلم الأول هو «كولونيا» للمخرج محمد صيام، في أولى تجاربه الإخراجية، ويشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة. الفيلم من بطولة أحمد مالك، كامل الباشا، مايان السيد، عابد عناني ودنيا ماهر، ومن إنتاج محمد حفظي، وتأليف محمد صيام وأحمد عامر. وقد سبق للفيلم أن فاز بخمس جوائز في مسابقة Final Cut بمهرجان فينيسيا السينمائي، ما منحه دفعة قوية قبل عرضه في الجونة.
تدور أحداث «كولونيا» في يوم واحد فقط، يبدأ بموت الأب وينتهي بكشف أسرار دفينة في علاقة متوترة جمعت الأب بابنيه، تحديدًا الابن الأصغر فاروق، الذي يؤدي دوره أحمد مالك. مشاعر الصدمة، القسوة، التراكمات النفسية، وانعدام الرابط العاطفي داخل هذه الأسرة، تتفجر جميعها على مدار يوم واحد يُعيد فتح جراح قديمة. الفيلم يرصد بحساسية عالية إرثًا نفسيًا معقّدًا خلّفه أب سلطوي، وفجوة عاطفية نشأت منذ وفاة الأم، لترسم ملامح شخصية ابن يبدو حيًا من الخارج لكنه ميت من الداخل، علاقته العاطفية فاشلة، نظرته للحياة معتمة، ويغلب عليه شعور دائم بأن والده هو أسوأ رجل في العالم.
ما يميز «كولونيا» هو قدرته على عكس عالم داخلي مكبوت، من خلال حوار قليل لكنه مشحون، وتمثيل مكثف دون مبالغات، وإخراج يحمل نضجًا رغم أنها التجربة الطويلة الأولى لصيام.
ولقد شهدت السجادة الحمراء لفيلم كولونيا حضورًا مميزًا لكوكبة كبيرة من نجوم الفن، الذين خطفوا الأنظار بإطلالاتهم ودعمهم للعمل. من بين الحاضرين على السجادة الحمراء كان محمود حميدة وابنته، عبير صبري، كريم فهمي، ماجد المصري، مي الغيطي، أحمد السعدني، جيهان الشماشرجي، أحمد حاتم، أحمد مجدي، لبلبة، ألفت عمر، بشرى، أحمد صفوت، يسرا اللوزي، مي سليم، روجينا، ركين سعد، خالد سليم وزوجته، تامر حبيب، حسن أبو الروس، جهاد حسام الدين، ثراء جبيل، بالإضافة إلى المؤلف هيثم دبور والمخرج تامر عشري، وعدد آخر من الفنانين وضيوف المهرجان.
ولقد حضر النجم أحمد مالك عرض فيلمه «كولونيا» متأخرًا بسبب تواجده في حفل عشاء خاص بالنجمة العالمية كيت بلانشيت، والذي أُقيم في نفس توقيت السجادة الحمراء الخاصة بالفيلم. ورافق مالك في حفل العشاء عدد من الفنانين الذين غابوا بدورهم عن انطلاق العرض، من بينهم هدى المفتي، تارا عماد، هنا شيحة، نور النبوي، طه دسوقي وزوجته
أما الفيلم الثاني، فهو «عيد ميلاد سعيد» للمخرجة سارة جوهر، والذي عُرض ضمن القسم الرسمي خارج المسابقة، وأثار حالة وجدانية خاصة بين جمهور الجونة، في ليلة أخرى مؤثرة عاشها المهرجان. الفيلم الذي يُعد أول تجربة طويلة لسارة جوهر، كُتب بالتعاون مع خالد دياب، شيرين دياب، واستنادًا إلى قصة قصيرة من تأليف خالد وشيرين دياب، يقدم سردًا إنسانيًا دقيقًا لحياة طفلتين تنتميان لعالمين متناقضين تمامًا.
الطفلة «توحه» ذات الثماني سنوات تعمل خادمة في منزل عائلة ثرية، وتحاول بكل عفوية وتركيز تنظيم عيد ميلاد مثالي لصديقتها «نيللي»، الطفلة التي تعيش داخل هذا البيت، لكنها لا تملك سوى حزن داخلي بسبب انفصال والديها. ورغم أن حياة نيللي ليست مثالية من الناحية الأسرية، إلا أنها لا تعرف معنى الحرمان الحقيقي، على عكس توحه، التي تعيش في فقر شديد مع أمها وخمس أخوات، وأمها تعمل بجهد بالغ لتوفير لقمة العيش من خلال الصيد البدائي من النيل باستخدام براميل بلاستيكية كعوامات للغوص، في مشاهد مؤلمة تعكس قسوة الواقع.
في هذا التناقض الحاد، يسلّط الفيلم الضوء على طبقتين اجتماعيتين تفصلهما التفاصيل، لكن تربط بينهما الطفولة التي تبحث عن الأمان. الطفلة «توحه» ترى أن هذا البيت المليء بالطعام واللعب هو حلمها، وتتمنى أن تعيش فيه إلى الأبد، بينما الحقيقة أكثر تعقيدًا. الفيلم أظهر بعين حساسة كيف تنظر الطفولة إلى الحياة من زاوية بسيطة، لكنها تفضح فيها منظومة الظلم الاجتماعي بأقسى أشكاله.
أداء دعاء رمضان في دور توحه وصفه النقاد بالاكتشاف السينمائي، كما نالت نيللي كريم وحنان مطاوع إشادات واسعة لأدوارهما التي توازنت بين الألم والصدق. كما حقق الفيلم إنجازًا غير مسبوق بفوزه بثلاث جوائز كبرى في مهرجان تريبيكا السينمائي الدولي، وهي جائزة أفضل فيلم عالمي، أفضل سيناريو عالمي، وجائزة نورا إيفرون لأفضل مخرجة. وقد شارك النجم العالمي جيمي فوكس في إنتاج الفيلم، مما منحه بُعدًا عالميًا، وساهم في اختياره رسميًا لتمثيل مصر في سباق جوائز الأوسكار 2026 عن فئة أفضل فيلم دولي.
بين فيلم «كولونيا» الذي يغوص في صراع داخلي مكبوت داخل جدران عائلة منهارة، وفيلم «عيد ميلاد سعيد» الذي يرصد قسوة الحياة على طفلة مهمشة ترى في أقل حقوق الآخرين حلمًا بعيدًا، قدّمت السينما المصرية نفسها في مهرجان الجونة بصورة ناضجة وجريئة، أكدت أن السينما ليست فقط للترفيه، بل مرآة للوجع الإنساني، ووسيلة للبوح حين يعجز الكلام