فى لحظة تاريخية تفرض نفسها بقوة على خريطة الشرق الأوسط، خرجت مصر من قلب دوامة الصراع إلى وسط مائدة السلام لتكون منارة جديدة تأبى أن تنحنى أمام العنف وتستوطن فى دائرة المحاور الفاعلة، فتعيد ترتيب الأولويات وترسم خرائط تبدّل فيها موازين القوة، ليس بالسلاح وحده، بل بالعقل والحكمة والسياسة. منذ تصاعد دائرة القتال فى غزة، سارعت القاهرة بخطى دبلوماسية متقدمة، متمددة أرجلها إلى المحيط الدولى تنسج التحالفات وتفتح الأبواب وتتبادل الرسائل، لتعود اليوم محط أنظار العالم بعد أن استضافت قمة شرم الشيخ للسلام التى بلغت ذروتها بتفعيل مبادرة الرئيس ترامب لوقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى وبسط خارطة إعادة إعمار غزة بعد أن عرفت الجبهات أن الكلام وحده لا يكفى إلا إذا لُفَّه صمت الأسلحة وإرادة التهدئة. من هذه الصورة التاريخية يأتى دور مصر ليس كوسيط تقليدي، بل كمنظم محاور السلام، موفر مسرحًا آمنًا للتفاوض والتوقيع، مبدّلًا الواقع الذى بات يظهر أن لا سلام دون مشاركة فاعلة، ودون أن تستمد القوة من الأرض التى تحتضنها الدول..فشرم الشيخ «بصفتها المنصة التى اجتمع فيها زعماء العالم للتوقيع على المبادرة» لم تعد فقط وجهة سياحية بديعة، بل أصبحت رمزًا للحظة المفصلية التى قد تُغيّر مسار القتال نحو السلام. الرئيس عبد الفتاح السيسى فى كلمته خلال ذكرى أكتوبر وجه التحية للرئيس ترامب على مبادرته، وأكد أن السلام الحقيقى لا يتحقق إلا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وبأن الالتزام بالمرجعيات الدولية يجب أن يكون الأساس، لا أن يكتب السلام على حساب العدالة أو يُفرض فرضًا. والجهود المصرية امتدت إلى التنسيق الوثيق مع الولايات المتحدة، واستضافة المفاوضات التى أسفرت عن وقف إطلاق النار، وتسهيل الإفراج عن الأسرى والمحتجزين، وكل ذلك ضمن رؤية تشمل إعادة إعمار القطاع على أسس عادلة دون تهجير، وضمان حقوق الإنسان والمواطن فلسطينياً وعربياً. ومن الجانب الأمريكى أيضاً، أبدى الرئيس ترامب إشادة واضحة بحكمة الرئيس السيسى ودور مصر الحيوى فى إنجاح هذه المبادرة، معتبرًا أن مصر تشكل حجر الأساس فى مساعى السلام بغزة، وأن دورها هذه المرة لم يكن وسيطًا فحسب، بل شريكًا إستراتيجيًا فى تنفيذ خطة تتجاوز الكلمات إلى أرض الواقع. هذه الخطوات لا تنفصل عن إرث مصر الدبلوماسى فى المنطقة.. فمصر منذ كامب ديفيد، مراً عبر الأزمات ــ بين حروب وضغوط دولية وأزمات إنسانية ــ ظلت تحتفظ بموقع مميز بين رمال التوازن، تبنى جسورًا بين الخصوم، وتعيد ترتيب البوصلة نحو حلول عادلة، لا حلولاً مؤقتة تخمد الجراح، بل تعالج الجذور. لكن التحديات أمام مصر ضخمة، فهى ليست لحظة توقيع وثيقة فحسب، بل أمانة تنفيذ، وضمان أن تترجم البنود على الأرض بعيدًا عن الغضب والخوف وخراب العمران..إعادة الإعمار، تأمين الإنسانية، ضمان الحقوق، إنهاء الهجمات، واستئناف الحياة الطبيعية للمشرد والمجروح والمتضرر . فى هذه اللحظة ينظر إلى مصر كمنقذ مؤقت ربما، لكن التوقعات ترتفع بأن تصبح مصر نقطة التقاء دائم لمن يريد السلام، لا لمن يريد فقط إيقاف الحرب.