«السادات».. حكاية قائد عظيم تحدى المستحيل وحقق النصر المجيد
أول مؤسسى جريدة «الجمهورية» .. اتخذ من صفحاتها منبرًا للشعب

فى قلب مدينة تلا بالمنوفية وتحديدا بقرية ميت أبو الكوم، يقف متحف الرئيس الراحل محمد أنور السادات شاهدا على مسيرة كفاح وبطولة رجل صنع التاريخ ورفع راية النصر فى السادس من أكتوبر وأصبح بطل الحرب والسلام بعبقرية مازالت مثار حديث وإعجاب رجال السياسة العسكرية حتى الآن.
بين جدران تحمل عبق التاريخ قامت «الجمهورية» بزيارة المتحف الذى يضم مقتنيات الزعيم الراحل، فما أن تطأ قدماك المتحف ينتابك شعور عودة بالزمن إلى أيام خالدة من تاريخ مصر، ويلفت أنظارك صور الزعيم بزيه العسكري، وينبض قلبك بروح أكتوبر والنصر فى كل قاعة وأمام كل صورة نستعيد حكاية من حكايات الزعيم، أو قرار تاريخى، أو موقف وطنى.
بمجرد دخولك من الباب الرئيسى لمنزل الزعيم الراحل تجد القاعة الرئيسية للمتحف والتى كانت مضيفة ريفية بسيطة، اعتاد السادات أن يستقبل فيها ضيوفه وأهالى قريته خلال زياراته للمنوفية وبعد استشهاده قرر أنور عصمت السادات ابن شقيق الراحل تحويلها إلى متحف تاريخى يوثق رحلة كفاحه ومقتنياته الشخصية، إضافة إلى وجود صور نادرة للرئيس فى مراحل حياته بداية من طفولته، خدمته العسكرية حتى توليه رئاسة الجمهورية، وتوقيعه اتفاقية السلام.
كان فى استقبالنا سامح الشحيمى مدير المتحف والذى رافقنا خلال الجولة وقدم شرحا وافيا لجميع محتوياته مؤكدا أن الرسالة التى يحملها المكان تتجاوز حدود التوثيق، فهى دعوة متجددة لاستلهام روح أكتوبر الذى مازلنا نحتفل بذكراه الـ«52»، فهذا المكان ليس مجرد قاعة لعرض المقتنيات، بل هو ذاكرة حية لتاريخ زعيمٍ عظيم خرج من هنا ليقود مصر إلى النصر والسلام.
بدأت الجولة مع الشحيمى الذى وصف لنا القاعة الرئيسية والتى تضم مجموعة نادرة من المقتنيات الشخصية للرئيس الراحل، تعكس تفاصيل حياته اليومية والعملية، منها البدلة العسكرية التى ارتداها يوم نصر أكتوبر 1973، والنظارة الشمسية التى اشتهر بها فى رحلاته الميدانية والساعة الخاصة التى كان يرتديها دائمًا والكشاف الضوئى والبايب، كذلك القلم الذى وقع به اتفاقية السلام، ونسخ من خطاباته أمام البرلمان والأمم المتحدة ويلفت انتباهك أن جميع الجدران تتزين بصور تؤرخ مراحل حياته: من ضابط فى الجيش المصري، إلى بطل العبور، إلى رئيس حمل راية السلام كذلك صور عائلية نادرة، تجسد لحظات من حياته الأسرية الهادئة، بين زوجته وأبنائه ووالدته، وفيها يظهر السادات بعيدا عن الرسميات، ضاحكا، متواضعا، مرتديا ملابس بسيطة.
وفى الجانب الآخر لنفس القاعة، تبرز ملابس الرئيس السادات كواحدة من أهم المقتنيات ففى خزانة العرض الزجاجية، تتصدر البدلة العسكرية التى ارتداها خلال حرب السادس من أكتوبر 1973، وهى تحمل شارات النصر ووسام الشجاعة، كذلك البدلة المدنية الشهيرة التى كان يرتديها فى عدد من المناسبات الرسمية، والبدلة الكحلى التى ارتداها أثناء إلقاء خطابه الشهير داخل الكينست الإسرائيلى إضافة إلى طربوشه القديم وبعض العباءات الريفية التى كان يفضل ارتداءها أثناء زياراته لقريته، وكانت تعكس تمسكه بجذوره وبساطته رغم مكانته العالمية.
أكد الشحيمى أن الرئيس الراحل كان يحرص على ارتداء ملابس مصنوعة من الأقمشة المصرية، تأكيدا لفخره بالصناعة الوطنية وتشجيعه الدائم للمنتج المحلى فالعباءات القطنية والبيجامات والأقمصة البسيطة المعروضة خيطت من نسيج مصرى خالص، فاختياره لأقمشة مصرية لم يكن مجرد تفضيل شخصي، بل رسالة عملية تعكس إيمانه بقدرات أبناء وطنه وثقته فى الصناعة الوطنية.
الوثائق والمراسلات
فى قلب المتحف وقفنا أمام ركن الوثائق والمراسلات والتى شهدت على رحلة رجل كتب التاريخ بحبر من الإيمان والوطنية، وخط بيده رسائل غيرت وجه الشرق الأوسط.
ملفات حرص المتحف على الاحتفاظ بها بعناية كبيرة ووضعها داخل أغلفة شفافة للعرض فقط أوراق صفراء تحمل توقيعه، عشرات الوثائق والمراسلات تبادلها السادات مع زعماء وقادة العالم، وفى مقدمتهم الرئيس الأمريكى جيمى كارتر ورئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجن خلال مفاوضات كامب ديفيد، تلك المفاوضات التى فتحت بابا جديدا للسلام فى المنطقة، وأعادت لمصر أرضها وكرامتها، كما شملت خطابات رسمية وجهها السادات إلى الأمم المتحدة وعدد من الدول العربية والأجنبية، تؤكد ثوابت السياسة المصرية القائمة على الاستقلال والكرامة.
أشار الشحيمى أن هذا الركن لا تقتصر محتوياته على المراسلات الرسمية فقط، بل تضم أوراقا شخصية دون فيها السادات ملاحظاته وأفكاره حول قضايا السياسة والاقتصاد والتعليم وبث الأمل فى الشباب، كذلك وجود مجلدات للجرائد القومية التى نشرت عن انجازات السادات أثناء توليه رئاسة الجمهورية وصولا ليوم العزة والنصر.
«أول مؤسسى جريدة الجمهورية»
السادات لم يكن مجرد قارئ للصحف، بل كان كاتبا صحفيا ومفكرا سياسيا، حمل هم الوطن فى مقالاته قبل أن يحمله فى قراراته، واستخدم القلم ليعبر عن رؤيته لمصر الحرة المستقلة.
ففى أعقاب ثورة يوليو 1952، كان السادات واحدا من المؤسسين الأوائل لجريدة الجمهورية، وأول مدير عام لها وقد اتخذ من صفحاتها منبرا للشعب المصري، يناقش قضايا الأمة، ويشرح مبادئ الثورة، ويؤكد أن الحرية ليست شعارًا بل مسئولية، وأن صوت الصحافة الحرة هو صمام أمان الوطن، كتب السادات فى الجمهورية بأسلوبه المميز، الذى كان يجمع بين عمق الفكر والرؤية الوطنية، حتى بعد توليه رئاسة الجمهورية، ظل يكن تقديرا خاصا لـ«الجمهورية» والتى شهدت بداياته ككاتب ومفكر، قبل أن يصبح قائدا للتاريخ وصانعا للنصر والسلام.
أضاف الشحيمى أن المتحف يضم مكتبتين تحتويان على أكثر من ألف كتاب حيث أن الرئيس الراحل جمع بين اللحظتين معا؛ فكتب بيده قصة وطن، ثم خطّها بقلمه فى واحد من أهم الكتب السياسية فى التاريخ المعاصر: «البحث عن الذات»، الذى صدر ليكون شهادة العصر على فكر قائد آمن بالحرية والسلام وترجم بجميع اللغات حتى العبرية كذلك حصل فى عام 1978 على جائزة نوبل للسلام، ليُصبح أول عربى وأفريقى يحصل عليها، تقديرا لشجاعته فى اتخاذ قرار السلام، ورؤيته التى تجاوزت حدود السياسة إلى الإنسانية.
كرسى الشيخ عبد الحميد عيسى
ومن بين أركان المتحف يلفت انتباهك وجود كرسى خشبى مرتفع عن باقى الكراسى الموجودة، متصدرا المشهد وبابتسامة أكد الشحيمى أن الرئيس فى لمحة إنسانية تبرز وفاءه لمعلمه الأول، خصص هذا الكرسى للشيخ عبد الحميد عيسى القاطن بالقرية، وخصص له مكانا مميزا تكريما لدوره فى تعليمه القراءة والكتابة وتحفيظه للقرآن الكريم حيث تتلمذ على يده منذ طفولته فى الكتاب فكان شاهدا على أولى خطواته فى طريق العلم والإيمان، فرغم ما وصل إليه من مكانة عالمية، لم ينس أبدا شيخه الذى غرس فى قلبه حب القرآن، وكان دائم السؤال عنه، يزوره كلما عاد إلى قريته، ويجلسه إلى جواره احتراما وتقديرا ويجعله فى منزلة أعلى من الضيوف الموجودة فكان ينتظره ليقبل رأسه معترفا بفضله عليه وكان دائما يوصى بالحفاظ على هذا الكرسى تخليدا لذكراه وتكريما لكل معلم صادق مخلص، وعندما وافته المنية قطع السادات مؤتمره آنذاك فى السودان، وقرر العودة لمصر لحضور الجنازة وكان على رأس المشيعين للجثمان حتى مثواه الأخير.
فيلم وثائقى يسرد حياة السادات
فيما يضم المتحف قاعة عرض تقدم للزائرين فيلما وثائقيا نادرا يستعرض مشوار السادات منذ نشأته فى قرية ميت أبو الكوم وحتى لحظة استشهاده، مرورًا بقراراته الجريئة التى غيّرت مجرى التاريخ.
أشار الشحيمى أن الرئيس لم يكن مجرد قائد سياسي، بل كان إنسانًا بمعنى الكلمة، لا ينسى جذوره الريفية ولا أهله الذين شاركوه البدايات، فكل من عرفه فى قـــــرية ميت أبو الكوم يروى بفخر مواقفه التى تعكس تواضعه ووفاءه واهتمامه بالناس، فقد ظل طوال حياته قريبًا من أهل قريته، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ويقضى حوائجهم، ورفض فى أول زيارة له لميت أبوالكوم بعد توليه الرئاسة، أن يستقبل فى قصر أو قاعة فخمة، وأصر على الجلوس وسط الأهالى فى مضيفته القديمة دون أى حواجز، فالجميع بالقرية يشهد بإنسانيته واحترامه للجميع، فقد كان يستمع لكل صوت، ويقدر كل جهد، صغيرا كان أو كبيرا، ورغم انشغاله بقيادة الوطن وخوض معارك السياسة والحرب، ظل قلبه معلقا بقريته، يزورها كلما سنحت الفرصة، ويوليها اهتماما خاصا، حيث خصص إيراد جائزة نوبل للسلام وكتابه الشهير البحث عن الذات لصندوق تنمية المجتمع بميت ابو الكوم الذى كان يرأسه لإقامة مشروعات خدمية وتنموية وإنسانية.
يوم عيد لــ «ميت أبو الكوم»
فى السادس من أكتوبر من كل عام، تسيطر حالة من الفرحة والسعادة أرجاء قرية ميت أبو الكوم، يتجمع الأهالى كبارا وصغارا فى محيط متحف السادات، يروون لأولادهم وأحفادهم قصص البطولة والعزة، وكيف استطاع ابن قريتهم، ذلك الشاب الريفى الذى تربى بين حقولها، أن يقود جيش مصر لتحقيق أعظم انتصار فى التاريخ الحديث.