أواصل الحديث حول الإستراتيجية الوطنية للسياحة التى تنفذها الدولة المصرية، وأتناول اليوم الانجاز الضخم الذى تحقق بشأن المتحف المصرى الكبير.
ويمثل إنجاز المتحف، هذا الصرح الحضارى الشاهق الذى يتربع على هضبة الجيزة على بعد كيلومترين فقط من أهراماتها الخالدة، تتويجًا لحلم طال انتظاره لعقود، وتحولاً استراتيجيًا فى رؤية مصر للتعامل مع إرثها التاريخي، متجاوزًا كونه مجرد متحف إلى أن يصبح مركزًا ثقافيًا عالميًا متكاملاً، وأيقونة معمارية تعكس التوازن الدقيق بين عراقة الماضى وإبداع الحاضر. هذا المشروع العملاق، الذى وُصف بـ «هدية مصر إلى العالم»، لم يأتِ ليعالج فقط مشكلة التكدس التى عانى منها المتحف المصرى بالتحرير، بل ليؤسس لمفهوم جديد للعرض المتحفى يروى قصة الحضارة المصرية القديمة بأكملها فى مكان واحد، وبأسلوب سردى متسلسل يعتمد على أحدث تقنيات العرض والتكنولوجيا التفاعلية والذكاء الاصطناعي، ليصبح بذلك أكبر متحف فى العالم مخصص لحضارة واحدة، على مساحة تتجاوز 490 ألف متر مربع، وهو إنجاز يتطلب إرادة سياسية وتخطيطًا دقيقًا وموارد هائلة وتعاونًا دوليًا، لا سيما مع الجانب اليابانى الذى قدم دعمًا ماليًا وفنيًا كبيرًا للمشروع. لقد كان الهدف الأسمى من وراء هذا الإنجاز هو توفير بيئة مثالية لحفظ وعرض ودراسة وصيانة أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، وعلى رأسها المجموعة الكاملة والفريدة لكنوز الملك الذهبى توت عنخ آمون، التى تُعرض لأول مرة فى التاريخ فى قاعتين رئيسيتين مخصصتين بالكامل له، مما يمثل عامل جذب سياحى لا مثيل له، ونافذة حصرية على أسرار العصر الذهبى للفراعنة، بالإضافة إلى عرض تمثال رمسيس الثانى المهيب فى البهو العظيم، والدرج العظيم الذى يتصاعد بالزوار عبر عصور التاريخ المصرى ليقدم لوحة بانورامية تحبس الأنفاس، فضلاً عن متحف مركب خوفو الشمسية الثانية، ليقدم المتحف بذلك تجربة ثقافية وتعليمية شاملة تتجاوز النظرة السطحية للقطع الأثرية.
إن الأهمية البالغة للمتحف لا تكمن فقط فى محتواه الأثري، بل فى دوره المحورى كقاطرة للتنمية الاقتصادية والسياحية، إذ يُتوقع أن يستقبل ما يصل إلى 5 ملايين زائر سنويًا فور افتتاحه الكامل خلال شهر نوفمبر القادم، مما سيحدث طفرة غير مسبوقة فى أعداد السياح الوافدين، وخصوصاً أولئك الباحثين عن السياحة الثقافية رفيعة المستوى وسياحة المؤتمرات، نظراً لاحتوائه على مرافق متكاملة مثل قاعات المؤتمرات والمسارح والسينما ومركز تعليمى ومتحف للطفل ومناطق تجارية وخدمية ضخمة تزيد من جاذبيته وقدرته على استضافة الفعاليات العالمية، وهو ما سيساهم بشكل مباشر فى رفع معدلات الدخل القومى وتعزيز العملات الأجنبية وخلق الآلاف من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة فى قطاعات الترميم، والخدمات، والإدارة، والسياحة، مما يجعله استثمارًا استراتيجيًا طويل الأجل فى رأس المال الثقافى والبشرى المصري، كما أن حصول المتحف على شهادة المبانى الخضراء كأول متحف أخضر فى الشرق الأوسط وأفريقيا، يؤكد التزام مصر بالمعايير البيئية العالمية والاستدامة فى تنفيذ مشاريعها الكبري، مما يضيف بعدًا حضاريًا معاصرًا لهذا الصرح التاريخي. يُعد مركز الترميم التابع للمتحف إنجازًا آخر فى حد ذاته، حيث أصبح من أكبر المراكز المتخصصة على مستوى العالم، ومجهزًا بأحدث المعامل والأجهزة لترميم القطع الأثرية المعقدة، وقد قام فريق العمل المصري، بالتعاون مع الخبراء الدوليين، بإنجاز مهام نقل وترميم آلاف القطع بدقة متناهية، بما فى ذلك قطع مجموعة توت عنخ آمون، مما يعكس مستوى الكفاءة والاحترافية التى وصل إليها الكادر المصرى فى هذا المجال، ليصبح المركز مرجعًا إقليميًا ودوليًا فى علوم الحفاظ على التراث. إن إنجاز المتحف المصرى الكبير هو رسالة واضحة للعالم تؤكد على قدرة الدولة المصرية على الوفاء بتعهداتها الحضارية، والمزج بين أصالة الماضى وتطلعات المستقبل، ليقف شامخاً كرمز للنهضة المصرية الحديثة، وموقعًا عالميًا فريدًا يربط الحضارة المصرية القديمة بالزائر المعاصر من خلال تجربة غامرة ومتكاملة.
وللحديث بقية.