منذ أكثر من قرنين، ظلّ الحلم المصرى بالدولة المتقدمة يسكن الضمير الجمعى للمصريين، حلمًا لا يشيخ مهما طال الزمن، ولا يخفت مهما تبدّلت الظروف. بدأ هذا الحلم مع محمد علي، حين أراد أن يجعل من مصر قوة حديثة تقف جنبًا إلى جنب مع الأمم الكبري. أرسل البعثات، وبنى المصانع، وأنشأ المدارس، وزرع فينا فكرة أن المصرى قادر على أن يصنع مجده بيده. ومنذ ذلك الوقت، ظل الحلم حاضرًا، يتجدد مع كل جيل، يأخذ أشكالاً مختلفة، لكنه يحتفظ بجوهره: أن نكون دولة تحترم الإنسان، وتمنحه مكانته، وتبنى المستقبل على أساس العلم والعمل.
أن تكون دولة متقدمة لا يعنى أن تملك فقط ناطحات السحاب أو القطارات السريعة، بل أن تمتلك عقلاً منظمًا وروحًا مؤمنة بقدرتها. التقدم فى جوهره هو احترام للعقل، وتقديس للوقت، وإيمان بالمسئولية الفردية والجماعية. الدولة المتقدمة هى التى تضع الإنسان فى مقدمة أولوياتها، وتؤمن بأن قوتها الحقيقية لا تكمن فى الموارد، بل فى العقول التى تُحسن استخدامها.
نحن لا نحلم بمصر تشبه اليابان أو كوريا الجنوبية فى المظاهر فقط، بل نحلم بمصر التى تمتلك روحًا مشابهة فى الإصرار والانضباط والإيمان بالذات. اليابان لم تنهض لأنها امتلكت الثروات، بل لأنها امتلكت الإرادة. بعد دمار الحرب، اختارت طريق الصبر والعلم، فحولت الركام إلى معمل للأفكار. وكوريا الجنوبية، التى كانت يومًا من أفقر دول العالم، بنت مستقبلها حين آمنت بأن التعليم هو الاستثمار الأجدي، وأن لا نهضة من دون تربية جيل يحلم ويتعب من أجل ما يؤمن به.
التاريخ يعلمنا أن الأمم لا تُبنى بقرارات سريعة، بل بمشروع طويل المدي، تزرعه أجيال وتحصده أجيال. ولعلّ أهم ما نحتاجه اليوم هو أن نقرأ تاريخنا بعيونٍ مفتوحة، لا بعين الحسرة، بل بعين التعلم. لقد مرّت مصر بمحاولات كثيرة للتحديث، بعضها نجح وبعضها تعثر، لكن كل محاولة تركت درسًا علينا أن نحفظه. فقد تعلّمنا أن أى مشروع للتقدم يفشل حين ينفصل عن الناس، وأن أى إصلاح يفقد روحه إذا لم يكن الإنسان محورَه. وتعلمنا أن النهضة لا تتحقق بالقوانين وحدها، بل بالثقافة التى تؤمن بها، والسلوك الذى يجسّدها.
إن أخطاء الماضى ليست عبئًا على الحاضر، بل بوصلة للمستقبل. من حقنا أن نتأملها لا لجلد الذات، بل لتجنب التكرار. حين نعرف أين تعثرنا، سنعرف أين يجب أن نبدأ من جديد. لقد ضيّعنا وقتًا طويلاً فى انتظار معجزة، بينما المعجزة الحقيقية تكمن فى الإنسان المصرى نفسه، إذا ما أُعطى الفرصة، ووجد القدوة، وشعر بأن جهده له معني.
ولكى يتحول الحلم إلى واقع، علينا أن نزرع فى الجيل الجديد الإيمان بأنه قادر. هذا الإيمان لا يُلقّن فى الدروس، بل يُبنى فى البيوت والمدارس والإعلام، وفى كل مساحة يشعر فيها الشاب أن مستقبله فى يده، لا بيد غيره. نحن بحاجة إلى جيل يثق فى نفسه كما وثق اليابانى بعد الحرب، وكما آمن الكورى فى فقره، جيلٍ يعرف أن كل حلم عظيم يبدأ بخطوة صغيرة، وأن الأوطان لا تُبنى بالشعارات بل بالعرق والمثابرة.
إننا حين نحلم بمصر متقدمة، فإننا لا نحلم بالمستقبل فقط، بل نستدعى تاريخًا طويلاً من المحاولات والآمال. نريد أن نكمل ما بدأه من سبقونا، أن نبنى على ما حققوه، لا أن نبدأ من الصفر كل مرة. نحن لا نفتقد الرؤية، بل المثابرة على تنفيذها. الحلم لا يموت، لكنه يحتاج من يسير به بثقة وثبات، بعيدًا عن العجلة والارتجال، قريبًا من العلم والتجربة.
ولعل أجمل ما فى الحلم أنه لا ينتهي، بل يتطور. فمصر التى حلم بها محمد على ليست هى مصر التى نحلم بها اليوم، لكن الجوهر واحد: أن نصبح دولة حديثة قادرة، تُقدّر الإنسان وتفتح له الطريق ليصنع مستقبله. الحلم المصرى ما زال حيًا، لأن جذوره ضاربة فى أرضٍ عرفت الحضارة قبل أن يعرفها العالم.
وفى النهاية، ربما لا نحتاج أن نُقنع أنفسنا أننا نستطيع، بل أن نبدأ الفعل الذى يُثبت ذلك. أن نحترم وقتنا، ونُتقن عملنا، ونؤمن أن كل خطوة صغيرة تُقربنا من الحلم الكبير. فالدولة المتقدمة ليست مكانًا نصل إليه، بل مسيرة نعيشها، تبدأ حين نقرر أن نرى المستقبل بأعين واثقة، لا خائفة، وأن نؤمن أن مصر- بتاريخها، بإنسانها، وبقدرتها على النهوض مهما كانت التحديات- خُلقت لتكون فى المقدمة، لا على الهامش.