تحل هذه الأيام ذكرى ميلاد أحد أبرز رموز النهضة الفكرية فى تاريخ مصر الحديث، رفاعة رافع الطهطاوى 15 أكتوبر 1801/1873، الرجل الذى جمع بين الدين والعلم، بين الأصالة والحداثة، فكان من أوائل من وضعوا الأسس الفكرية لمشروع النهضة المصرية والعربية.
لم يكن الطهطاوى مجرد رجل عاش فى القرن التاسع عشر، بل كان مشروع نهضة متكاملاً سبق عصره بعقود، آمن بأن إصلاح المجتمع يبدأ من الفكر والتعليم، وأن مصر قادرة على التقدم حين يتسلح أبناؤها بالمعرفة.
ولد فى طهطا بمحافظة سوهاج فى بيئة ريفية بسيطة، لكنه أظهر نبوغاً لافتاً فالتحق بالأزهر الشريف، حيث درس علوم الدين واللغة وتتلمذ على يد الشيخ حسن العطار، الذى غرس فيه روح الانفتاح على الفكر الحديث. هذا التأثير المبكر جعله يبحث عن صيغة تجمع بين الإيمان والعقل.
عام 1826 أُرسل إلى فرنسا ضمن أول بعثة علمية بأمر من محمد على باشا ليعمل إماماً وواعظاً، وهناك عاش تجربة شكلت وعيه الفكرى. تعلّم اللغة الفرنسية واطّلع على فلسفات التنوير، فأدرك أن العلم لا يتناقض مع الدين، وأن المدنية ليست نقيض الإيمان. كتب يقول: «رأيت فى باريس قوماً عقلاء فى دينهم، منظمين فى دنياهم، يأخذون من العلوم ما ينفع الناس».
عاد إلى مصر حاملاً مشروعاً فكرياً متكاملاً لبناء دولة حديثة تقوم على العلم والحرية والقانون، ودوّن تجربته فى كتابه الشهير «تلخيص الإبريز فى تلخيص باريز»، الذى قدّم فيه رؤية نقدية للحضارة الغربية بروح وطنية مستنيرة.
أسّس مدرسة الألسن عام 1835 لتكون نواة التعليم الحديث، وأشرف على ترجمة مئات الكتب من الفرنسية إلى العربية، إيماناً منه بأن الترجمة توسّع مدارك المجتمع، فاستحق أن يُلقَّب بـ «رائد الترجمة الحديثة».
سبق عصره بقرن كامل حين دعا إلى تعليم المرأة وكتب «المرشد الأمين للبنات والبنين» مؤكداً أن المرأة المتعلمة هى مفتاح مجتمع مستنير. كما دعا إلى المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية، ورأى أن الشرع والعقل متكاملان، وأن التحديث الحقيقى هو إحياء روح الإسلام الأولى فى البحث والإبداع لا تقليد الغرب.
وامتد تأثير رفاعة الطهطاوى إلى أجيال كاملة من المفكرين والإصلاحيين الذين ساروا على نهجه، مثل على مبارك فى الإدارة والتعليم، والإمام محمد عبده فى الإصلاح الدينى، وقاسم أمين فى الدفاع عن المرأة، وطه حسين فى ترسيخ الفكر العقلانى الحديث.
رحل الطهطاوى فى ديسمبر 1873، لكن فكره ظل حياً يتجدد مع كل جيل. فقد ترك لنا مشروعاً وطنياً وإنسانياً يؤمن بأن النهضة لا تكون إلا حين يتعلم الناس كيف يفكرون لأنفسهم لا حين يُفكَّر لهم.