فى أيامنا هذه التى تشهد تحولات كبرى فى المنطقة نجحت القاهرة أن تمسك بخيوطها لتجمع قادة العالم على أرض شرم الشيخ لتكتب تاريخًا جديدًا وعبورًا جديدًا نحو السلام يعيدنا لأجواء أكتوبر التى سطّر فيها المصريون ملحمة أو معجزة العبور العظيم.
ولأن معركة اليوم هى معركة وعى بالأساس فلم يعد الحديث عن إصلاح الإعلام ترفاً فكرياً أو شعاراً يتردد فى المناسبات، بل أصبح مطلباً وطنياً ملحّاً تدرك الدولة أهميته، إيماناً منها بأن الإعلام هو المرآة التى تعكس وعى الأمة، والبوصلة التى تهدى الرأى العام وسط اضطراب المشهد وتزاحم التحديات. ولعل دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسى المتكررة إلى تطوير الخطاب الإعلامى جاءت لتؤكد هذه القناعة الراسخة بأن الكلمة الواعية لا تقل أثراً عن الرصاصة الموجهة، وأن إعلاماً رشيداً مستنيراً هو خط الدفاع الأول عن الوعى الوطني.
وفى هذا السياق، جاء تكليف رئيس مجلس الوزراء بتشكيل لجنة موسّعة تضم نخبة من الخبراء والإعلاميين والشخصيات العامة، لوضع رؤية شاملة لتطوير الإعلام المصري، بما يواكب التحولات التكنولوجية المتسارعة، ويستعيد للإعلام المصرى مكانته الريادية التى طالما تميز بها فى محيطه العربى والإقليمي. وقد بدأت بالفعل جهود حقيقية لترجمة هذا التوجه إلى واقع ملموس، من خلال مراجعة الخطاب الإعلامي، وتحديث البنية التشريعية والتنظيمية، وتطوير أدوات التدريب والتأهيل، وفتح المجال أمام الطاقات الشابة لتكون جزءاً فاعلاً فى صناعة الوعى وصياغة المستقبل.
إننا أمام لحظة فارقة تستوجب إصلاحاً عميقاً وشاملاً لمنظومة الإعلام، حتى يكون قادراً على مجاراة روح العصر، ومواكبة ثورته الرقمية، وإيصال رسالته بمهنية وموضوعية تعيد الثقة بين المواطن ووسائل إعلامه.
وفى الذكرى الثانية والخمسين لانتصارات أكتوبر العظيم من حقنا أن نتوقف أمام هذا الحدث الذى لعب فيه إعلامنا وصحافتنا دورًا بارزًا، بوصفهما المرآة التى عكست إرادة الأمة وروحها الوثابة، فى مواجهة آلة الحرب «الإسرائيلية» بالتضليل والخداع والمعادلة الصفرية، التى حاول بها العدو أن يصور نفسه وكأنه لا يُقهر.
فالإعلام فى تلك الحرب كان صوت الإرادة، وناقل مشاعر الجماهير، ومؤجج روح الصمود والفداء والانتماء للوطن.
من هنا يثور سؤال: هل ما زالت صحافتنا اليوم تمتلك روح العبور الأولى أم أنها فى حاجة إلى عبور جديد؟ عبورٍ مهنيٍّ يواكب المتغيرات الهائلة فى بيئة الاتصال والإعلام الإلكتروني، ويحفظ لها دورها الوطنى فى ترسيخ المنافسة مع وسائط النشر الجديدة التى تتسع كل يوم؟
هل نحن بحاجة إلى إعادة صياغة خطاب إعلامى وصحفى يعبّر عن نبض الناس ويستوعب قضاياهم، ويتجاوز حدود التناول التقليدي؛ فالمشهد الإعلامى بات مزدحمًا بمئات الحسابات والمنصات الرقمية، والمجموعات الصحفية التى تصنع لنفسها جمهورًا متنوعًا، بالابتكار المطلق فى الأسلوب والتناول والطرح.
الصحافة مرآة الوطن، تعكس إنجازاته وقضاياه بوعى ومسئولية، ولهذا فإن غيابها عن تناول هموم الناس يصيب المجتمع كله بالوهن، وهو ما يستلزم ضرورة اكتشاف «الرسالة» الحقيقية للصحافة، ونستعيد ثقة الناس فيها، لا عبر العناوين البراقة، بل بالعمل الجاد والموضوعية والمصداقية.
لقد كان لرجال الصحافة فى معركة أكتوبر دور لا يقل عن دور الجنود فى الميدان، فهم من كتبوا بالعرق والكلمة الصادقة صفحات النصر، بينما اليوم تراجع ذلك الدور كثيرًا أمام غزو الصورة والمشهد اللحظى وسرعة الخبر وكثرة صناع محتوى أسرع وصولًا للناس وأكثر التصاقًا بهم.
أما أخطر ما نواجهه اليوم فهو انفصال الصحافة عن الجيل الجديد الذى لا يفضل قراءة الصحف الورقية، بل يتابع كل شيء عبر هاتفه الموصول بالإنترنت؛ وهذا الانفصال بين الجيلين – الصحفى المخضرم والشاب – خلق فجوة معرفية ومهنية أثرت على جودة الصحافة العربية.
لقد استعاض الشباب عن القراءة العميقة بالمعلومة السريعة، وعن التحليل بالسطحية، وعن الفكر بالانفعال، فغابت الموضوعية وارتفعت الأصوات، وضعفت الحروف، وتراجعت اللغة الرصينة التى ميزت الصحافة المصرية لعقود طويلة، حدث هذا بالتزامن مع صعود نجم السوشيال ميديا التى تعدد فنونها وصنعت جمهورها بسهولة الوصول وسرعة التأثير وجاذبيته حتى باتت لغة العصر المفضلة لدى الشباب والأجيال الجديدة وهو ما سحب البساط من تحت الصحافة التقليدية التى واجهت صعوبات مادية بالغة التعقيد تركت آثارها على الصناعة كلها، فتراجع دورها وانحسر تأثيرها لأسباب يضيق المقام عن ذكرها.. وللحديث بقية!
