إن حب الوطن، والحفاظ على قوته والدفاع عنه، والتضحية من أجله، فطرة إنسانية أكد عليها الإسلام؛ لذا كان تراب الوطن الذي تطؤه بقدميك، معادلًا لنفاسة روحك التي بين جنبيك؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [سورة النساء: آية 6٦]، فجعل الله عزّ وجل مفارقة الروح للبدن كمفارقة الإنسان لوطنه.
وقد جسَّد الأنبياء عليهم السلام هذا المعنى، فهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام يدعو لوطنه قائلاً: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: ٣٥]، وهذا كليم الله موسى عليه السلام يأخذه الشوق والحنين إلى وطنه مصر، فبمجرد أن قضى الأجل الذي كان بينه وبين شعيب، عاد مسرعًا بكل شغف، وحب للبلد الذي وُلد فيه، وتربَّى على أرضه.
ومن تكريم الله عز وجل لمصر أنه جعلها أرضًا للأنبياء، ومسرحًا للمعجزات؛ فعلى أرض مصر وُلد نبي الله إدريس، وعاش الخليل إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وهارون عليهم السلام؛ وعلى أرض مصر ضرب موسى عليه السلام بعصاه، فانفلق الحجر له ماءً، وانشق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم، قال تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} [البقرة: آية ٦٠].
وقد بشَّر سيدنا رسول الله e أصحابه بفتح مصر، وجعل الإحسان إلى أهلها وصية له، فقال e: «إِنَّكم ستفتحونَ مصر، وهِيَ أرضٌ يُسَمَّى فيها القيراطُ، فإذا فتحتُموها، فاستَوْصُوا بأَهْلِها خيرًا، فإِنَّ لهم ذمَّةً، ورَحِمًا» [رواه مسلم].
ولقد شهد بفضائل مصر وأهلها كثير من أصحاب النبي e، من ذلك: شهادة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما، حيث قال: أهل مصر أكرم الأعاجم كلها، وأوسعهم يدًا، وأفضلهم عنصرًا، وأقربهم رحمًا بالعرب عامة، وبقريش خاصة.
وفي عام الرمادة، حين أصاب القحط مدينة سيدنا رسول الله e، أرسل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص والي مصر يطلب منه الغوث، فأرسل إليه عمرو بن العاص قائلا: لأرسلن إليك بقافلة أولها عندك وآخرها عندي، فأرسل إليه بقافلة عظيمة، محملة بالدقيق والدهن والعباءات، فكانت مصر هي السند والظهير.
وقد كثرت الشهادات المعبرة عن عظمة مصر، ومنها: شهادة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، حيث قال: أهل مصر الجند الشداد، ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤنته. ومنها: شهادة كعب الأحبار رضي الله عنه، حيث قال: مصر بلد معافاة من الفتن، من أرادها بسوء أكبه الله على وجهه.
وقد ضرب لنا الرسول e أروع الأمثلة في حب الوطن؛ فعندما أخرجه المشركون من مكة المكرمة، خاطبها قائلاً: «ما أطيبَكِ من بلَدٍ وأحبَّكِ إلَيَّ، ولولا أنَّ قومِي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ» [رواه الترمذي]، ولما استقر سيدنا رسول الله e بالمدينة المنورة، دعا ربه قائلاً: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ، وصَحِّحْهَا، وبَارِكْ لَنَا في صَاعِهَا ومُدِّهَا، وانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بالجُحْفَةِ» [متفقٌ عليه].
وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله e «كانَ إذَا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، فَنَظَرَ إلى جُدُرَاتِ المَدِينَةِ، أوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، وإنْ كانَ علَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا؛ مِن حُبِّهَا» [رواه البخاري]. وقام الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء بذكر طائفة من محبوباته e، فقال: وكان يحب عائشة، ويحب أباها، ويحب أسامة، ويحب سبطيه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جَبَل أُحُد، ويحب وطنه…
ومصر، تلك الدولة الشامخة العظيمة، كانت ولا تزال الصخرة الصماء التي تحطمت عليها كل قوى الباطل في القديم والحديث، وقد ضحى شهداؤنا بأرواحهم أيضًا من أجل تحرير أرض الفيروز سيناء، حيث النصر المؤزر في العاشر من رمضان عام 1393 هجريًّا، الموافق السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣ ميلاديًّا، عندما خاض جنودنا البواسل معركة العبور، وكان شعارهم: “الله أكبر، الله أكبر” فأيَّدهم الله بنصره، وكان ذلك النصر شاهدًا على قدر مصر، فهي درع الأمة، وحصنها الحصين، ودرة تاج العروبة.
نسأل الله أن يحفظ مصر، وأن يجعلها مجبورة، مستورة، محفوظة، آمنة مطمئنة، وأن يديم عليها الأمن والأمان.









