التسول لم يعد مشهداً عابراً، بل تحول إلى ظاهرة يومية تتكرر أمام أعين الجميع. رجال ونساء وأطفال يفترشون الأرصفة ويطرقون نوافذ السيارات بأيد ممدودة وعيون تستجدي الشفقة والعطف، خلف تلك المشاهد تختبئ حكايات إنسانية مؤلمة وأخرى مخادعة.
وفي وقت كثفت فيه الدولة جهودها عبر برامج الحماية الاجتماعية وعلى رأسها “تكافل وكرامة” الذي لا يقتصر على صرف الدعم النقدي فقط، بل يهدف إلى تمكين الأسر اقتصادياً وربط المساعدات ببرامج التعليم والصحة والعمل، بما يضمن خروج المستفيدين من دائرة الفقر إلى العمل والإنتاج، يؤكد خبراء القانون أن التسول جريمة مكتملة الأركان يعاقب عليها قانون العقوبات، خاصة إذا ارتبط بالتحايل واستغلال الأطفال.
بينما يرى خبراء علم النفس والاجتماع أنه يعكس اضطرابات نفسية وانعدام الثقة بالذات، وأن الظاهرة مؤشر على خلل في منظومة القيم وضعف الرقابة الأسرية والمجتمعية.
كما أكد خبراء الاقتصاد أنه تحول لاقتصاد يدر ملايين طائلة، يدور في الظل، يستنزف موارد الدولة وقيمها في آن واحد. ومن الجانب الديني، أكد علماء الأزهر أن التسول دون حاجة حقيقية حرام شرعاً.

رغبة في الحصول على المال بأسرع الطرق
أكد الأستاذ الدكتور فتحي قناوي، أستاذ كشف الجريمة بمركز البحوث الاجتماعية، أن ظاهرة التسول ليست مشكلة اجتماعية أو اقتصادية في جوهرها، بل ترتبط في كثير من الأحيان برغبة بعض الأفراد في الحصول على المال بأسرع الطرق الممكنة، دون بذل جهد أو عمل مشروع.
وأوضح أن هناك فئة قليلة من المتسولين قد تكون بحاجة فعلية للمساعدة، إلا أن الأغلبية تمتهن التسول كمهنة غير معترف بها قانوناً أو أخلاقياً، وتعتمد على استعطاف الناس، خصوصاً في الأعياد والمناسبات، أو تلجأ إلى حيل مختلفة كبيع المناديل أو استئجار الأطفال لاستدرار العطف، مشيراً إلى أن العشوائية في العطاء تشجع على استمرار ظاهرة التسول وتحوّلها إلى مصدر دخل ثابت. وأضاف أن بعض المتسولين يمارس التسول نهاراً، بينما يعيش ليلاً كرجل أعمال يمتلك عقارات ولديه مشاريع يديرها، موضحاً أن المجتمع نفسه يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن انتشار الظاهرة، نتيجة غياب الوعي المجتمعي والتعاطف غير المحسوب مع هؤلاء. لافتاً إلى أن استمرار الظاهرة يشوّه صورة مصر أمام العالم، خاصة في المناطق السياحية والآثرية ووسط البلد، حيث ينقل المتسولون صورة سلبية وغير حقيقية عن المجتمع للسياح، وهو ما ينعكس بالسلب على قطاع السياحة والاقتصاد الوطني.

ظاهرة إنسانية قديمة
أكد الدكتور وليد هندي – استشاري الصحة النفسية – أن التسول ظاهرة إنسانية قديمة وعالمية، تختلف أنماطها وآلياتها من عصر إلى آخر وفقاً لطبيعة المجتمعات وتطورها. هناك تسول أصبح أكثر شيوعاً؛ التسول الإلكتروني ظاهرة حديثة تختلف تماماً عن التسول التقليدي في الشوارع، وأن المتسول في الماضي كان يمارس أنشطة ملموسة مثل بيع البخور أو المناديل، أو استجداء المارة بتلاوة آيات من القرآن لاستعطافهم، متحملًا بذلك الإهانة والضجر الاجتماعي، وبيّن أن هذا الشكل من التسول انتشر بسبب أن الناس سئمت من الطرق التقليدية.
المتسول الإلكتروني
أما اليوم، فإن المتسول الإلكتروني أكثر ذكاءً حيث يعتمد على دراسة ضحيته بعناية عبر مراجعة حساباته، وأصدقائه، وأفراد أسرته على منصات التواصل الاجتماعي، قبل الشروع في طلب المساعدات.
كما أن المتسول يحقق حصيلة مالية أكبر بكثير مقارنة بالتسول في الشارع، كما أنه لا يتطلب ساعات عمل طويلة كما في التسول التقليدي، يُمارسه في أي وقت وبشكل مريح، بعيداً عن العناء والفضيحة الاجتماعية أو الملاحقة القانونية، وهو ما يجعل المتسول الإلكتروني أكثر حرصاً على إخفاء هويته، وغالباً ما يكون مثقفاً وعلى دراية بكيفية استغلال عاطفة الناس. وأساليب التسول الإلكتروني متعددة، منها: إنشاء صفحات بأسماء سيدات يدعين أن أطفالهن مرضى ويحتاجون لجراحة عاجلة، وصفحات تطلب تبرعات عينية من أدوية أو مواد غذائية، تدعي عدم وجود طعام في المنزل وغيرها، تجمع تبرعات ضخمة لشراء أجهزة طبية تعويضية وتبرعات لصالح بناء المساجد وشراء مواد البناء.
وأضاف أن هذه الأساليب تختلف تماماً عن التسول التقليدي الذي كان يعتمد على استئجار أطفال بأسعار تراوحت بين 150 إلى 300 جنيه في الأيام العادية، وفي المواسم والأعياد من 750 إلى 1000 جنيه يومياً.

الإسلام دين يحفظ كرامة الإنسان
أكد فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الفتاح عبد الغني العواري، العميد الأسبق لكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، أن الإسلام دين يحفظ كرامة الإنسان ويرفع من قيمته. المسلم عزيز، إذ كرمه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ”، مشدداً على أن هذه الكرامة والعزة تستلزمان سعي الإنسان الدؤوب للحفاظ عليها.
وقد أكدت السنة النبوية الشريفة على أهمية العمل والسعي للحفاظ على كرامة الإنسان، حيث حث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الناس على الاعتماد على النفس وعدم التسول، فقال صلى الله عليه وسلم: “لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهُ، فَيَأْكُلَ مِنْ ثَمَنِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً، فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ”.
أثر التسول لا يقتصر على الدنيا
ويؤكد بعض العلماء أن أثر التسول لا يقتصر على الدنيا، بل يمتد إلى الآخرة، حيث إن لحم وجه المتسول يتساقط يوم القيامة كعقوبة لما فيه من إخلال بكرامة الإنسان التي كفلها الإسلام. وأكد أن أموال المتسول غير المشروعة تُعد أموالاً محرمة شرعاً. وأشار العواري إلى أن التسول على الطرقات لا يمثل وسيلة مشروعة للعيش، بل هو استغلال لعواطف الناس، وتحويل الحاجة إلى مهنة وحرفة. وأضاف أن التسول لا يضيع كرامة المتسول فحسب، بل يضيع أيضاً أموال الصدقات التي كان يمكن أن تصل إلى مستحقيها الحقيقيين. قال الله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.
وأكد أن الصدقات يجب أن تُمنح لمن هم في حاجة حقيقية، وليس لمن جعل التسول أسلوب حياة، وعلى كل من يعطي من الأغنياء أن يبحث عن هؤلاء الذين لا يسألون الناس، الذين لو ماتوا جوعاً في بيوتهم لا يمدون أيديهم. وعلى كل من يعطي أن يعلم أن بدفعه المال للمتسول ضيع الفقير المتعفف، وعليه أن يوجه صدقته إلى الأماكن الموثوقة منها؛ كالجمعيات الأهلية التي تشرف عليها وزارة التضامن الاجتماعي، والتي تتولى رعاية الأسر ولديها بيانات المستحقين للعلاج والكسوة وغيرها، فلا عذر لأحد أن يستسهل العطاء للمتسولين.

التفكك الأسري والتسرب من التعليم
قال الدكتور خالد الشافعي، رئيس مركز العاصمة للدراسات الاقتصادية، إن التسول ظاهرة عالمية موجودة في مختلف دول العالم، لكن تختلف أسبابها من مجتمع لآخر. وأوضح أن من أبرز أسباب انتشار التسول هي تفكك بعض الأسر، وغياب الدخل الثابت، وتسرب الأطفال من التعليم، مشدداً على ضرورة مواجهة الظاهرة برؤية شاملة ومتكاملة تشمل البعد الاقتصادي والديني والاجتماعي. وأكد الشافعي أن مواجهة التسول يتطلب تعزيز برامج الحماية الاجتماعية، وتوسيع نطاق المبادرات التي توفر فرص عمل ودخلاً مستقراً للفئات الأكثر احتياجاً، بما يسهم في التعافي من انتشار الظاهرة والحد من تفاقمها.
الأمر يحتاج رؤية اقتصادية واجتماعية متكاملة تقوم على توفير فرص عمل حقيقية تتناسب مع مختلف الفئات، وخاصة البسطاء وذوي المهارات المحدودة، مؤكداً أهمية دعم برامج الحماية الاجتماعية مثل “تكافل وكرامة”، وتوسيع مظلة الضمان الاجتماعي لتشمل الفئات الأكثر احتياجاً، وتمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر للنساء والشباب، بما يسهم في تحقيق دخل مستقر يحد من لجوء البعض للتسول.
وأشار إلى أن الحلول الاجتماعية لا تقل أهمية، إذ يجب تفعيل دور الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني في إيواء وتأهيل المتسولين، مع تكثيف حملات التوعية للأسر بخطورة دفع الأطفال إلى التسول أو استغلالهم في الشوارع. ودعا إلى إنشاء دور رعاية متخصصة لإعادة دمج الأطفال المتسولين في التعليم والمجتمع.

جريمة تمس كرامة الإنسان
يقول محمود البدوي – محام بالنقض والدستورية العليا والخبير الحقوقي – إن ظاهرة التسول تمثل في حقيقتها جريمة يعاقب عليها القانون لما تنطوي عليه من مظاهر استغلال واحتيال تمس كرامة الإنسان وتخل بالنظام العام. فقد تناول القانون رقم 49 لسنة 1933 جرائم التسول بوصفها سلوكاً مخالفاً للنظام العام، ووضع عقوبات رادعة للحد من انتشارها. فنصت المادة الأولى على معاقبة كل شخص صحيح البنية، ذكراً كان أو أنثى، يبلغ الخامسة عشرة عاماً أو أكثر، إذا وُجد متسولاً في الطريق العام أو الأماكن العامة ولو تظاهر بتقديم خدمة أو بيع سلعة بسيطة، بالحبس مدة لا تتجاوز شهرين.
كما شدد القانون العقوبة على من يتصنع الإصابة أو يستخدم الحيل لاستدرار عطف الناس، وعلى من يدخل المنازل أو المحال دون إذن بغرض التسول، لتصل العقوبة إلى الحبس ثلاثة أشهر. ولم يغفل المشرّع عن استغلال الأطفال في أعمال التسول، إذ نصت المادة السادسة على معاقبة كل من يستخدم أو يسلِّم طفلاً دون الخامسة عشرة للتسول بالحبس من ثلاثة إلى ستة أشهر، بينما شددت المادة السابعة العقوبة في حالة العود لتصل إلى عام كامل.
كما أوجبت المادة الثامنة إدخال المتسولين غير القادرين بدنياً إلى الملاجئ بعد تنفيذ العقوبة، لضمان تأهيلهم ومنع عودتهم إلى الشارع. ولأن بعض صور التسول تتخذ شكل الاحتيال المنظم، فقد نصت المادة 336 من قانون العقوبات على معاقبة كل من يحتال على الغير للاستيلاء على ماله باستعمال وسائل غير شريفة أو وقائع مزورة أو أسماء وهمية، بالحبس.
وشدد القانون العقوبة في حالة التكرار، مؤكداً أن الاحتيال جريمة تمس الثقة العامة وتشترك في بعض مظاهرها مع أساليب التسول التي تهدف لاستدرار المال بالحيلة.
وفي السياق نفسه، أولى المشرّع اهتماماً خاصاً بحماية الأطفال من الاستغلال في التسول، حيث حظرت المادة 291 من قانون العقوبات المعدلة بالقانون رقم 141 لسنة 2021 أي مساس بحق الطفل في الحماية من الاتجار أو الاستغلال الجنسي أو التجاري أو الاقتصادي، واعتبرت استخدام الأطفال في التسول صورة من صور الاتجار بالبشر. ونصت المادة على السجن المشدد لمدة لا تقل عن خمس سنوات وغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تجاوز 200 ألف جنيه لكل من باع أو اشترى طفلاً أو استغله في عمل قسري أو نشاط غير مشروع، حتى وإن وقعت الجريمة خارج البلاد.
وبذلك يؤكد الإطار القانوني أن التسول ليس سلوكاً عشوائياً فقط، بل جريمة متكاملة الأركان في حال اقترنت بالاحتيال أو استغلال الأطفال، ما يستدعي تطبيق القوانين بحزم.