فى عالمٍ يضجُّ بالأزمات والصراعات، ويشهد تشابكاً معقداً بين السياسة والدين والفكر والهوية، تبرز الذكرى السنوية الثانية لأحداث السابع من أكتوبر كعلامة فارقة فى الوعى الإنساني، تعيد طرح الأسئلة الكبرى حول العدالة والضمير والمصير المشترك للبشرية. ففى الوقت الذى تتفاقم فيه الكوارث الإنسانية فى غزة حتى تجاوزت حدود التصور، وتتعالى فيه أصوات الأبرياء تحت ركام الحرب، تلوح فى الأفق بارقة أمل جديدة مع توقيع «اتفاقية شرم الشيخ للسلام»، التى جاءت لتضع حدًّا لنزيف الدم، وتفتح الطريق أمام وقفٍ شاملٍ ودائمٍ لإطلاق النار، وبدء مسارٍ سياسى نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
غير أن هذا الاتفاق لم يأتِ فى فراغٍ سياسى أو إنساني، بل فى خضمّ عالمٍ مليء بالتناقضات، بين يقظة الضمير الشعبى العالمى الذى تجسّد فى آلاف المظاهرات المؤيدة لفلسطين، وبين تراجع المنظومات الأخلاقية لبعض القوى الدولية أمام مشاهد الإبادة والتهجير. وبينما تُسجَّل هذه اللحظة كمفصل تاريخى فى مسار القضية الفلسطينية، يبقى السؤال المطروح: هل تكون شرم الشيخ بداية لسلامٍ عادلٍ يُنهى عقودًا من الاحتلال والمعاناة، أم مجرّد هدنة مؤقتة فى حربٍ طويلة بين الأجساد والأفكار؟!
وفى هذا السياق، يأتى تقرير مرصد الأزهر الأسبوعى ليقدّم قراءة تحليلية شاملة فى تداخلات المشهد الراهن، متناولاً ثلاثة محاور رئيسة: تطورات الأزمة فى الشرق الأوسط وانعكاساتها الدولية، وخارطة التطرف والإرهاب فى العالم وتحولات إستراتيجيات مكافحته، وأوضاع الجاليات المسلمة فى أوروبا بين مطرقة الإسلاموفوبيا وسندان الاندماج القسري. إنها لحظة اختبارٍ حقيقيٍّ للإنسانية جمعاء، يواجه فيها العالم التحدى الأخطر: كيف يمكن تحقيق الأمن والعدالة دون أن يُسحق الإنسان فى دوامة القوة والمصالح؟
خلال تقرير مرصد الأزهر الأسبوعى للفترة من 4 إلى 10 أكتوبر 2025، وتزامنًا مع حلول الذكرى السنوية الثانية لأحداث السابع من أكتوبر، تتجلى أمام العالم صورة معقدة ومؤلمة تتشابك فيها أزمة الشرق الأوسط المستمرة مع تحديات التطرف والكراهية العابرة للحدود. فبينما تحاول الدبلوماسية وربما «الإنسانية!!» إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر «اتفاقية شرم الشيخ للسلام» لإنهاء الكارثة الإنسانية فى غزة التى تجاوزت أرقام ضحاياها الـ 67 ألفاً، وبينما يواجه القادة السياسيون اختباراً حقيقياً يكشف عن تباين صارخ فى المواقف الدولية والأوروبية، يستمر صدى «حرب الأجساد والأفكار» فى الارتداد من الشرق إلى الغرب.
يتناول هذا التقرير تلك المحاور المتقاطعة، بدءاً من الحراك الشعبى العالمى غير المسبوق الذى يؤكد يقظة الضمير الإنساني، مروراً بإستراتيجيات مكافحة الإرهاب التى يحذر مرصد الأزهر من قصورها العسكري، ووصولاً إلى التحدى الوجودى الذى تواجهه الجاليات المسلمة فى أوروبا فى مواجهة «معضلة الاندماج» وخطاب الكراهية المتصاعد.
والتطور الأبرز تمثل فى توقيع اتفاقية شرم الشيخ للسلام برعاية مصرية -أمريكية، بهدف وقف فورى وتدريجى لإطلاق النار وبدء عودة النازحين إلى شمال غزة، وإطلاق سراح الرهائن، والتعهد بـ إعادة الإعمار، وفتح أفق سياسى نحو إقامة دولة فلسطينية. هذا الاتفاق يضع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى أزمة سياسية ودبلوماسية كبرى بين انهيار ائتلافه اليمينى المتطرف (بسبب تهديدات سموتريتش وبن جفير) وخسارة الدعم الدولي، ويُحذر اقتصادياً من أن فشله يعنى كارثة اقتصادية للاقتصاد الإسرائيلي.
فى المقابل، تزامنت الذكرى مع حراك شعبى وجماهيرى عالمى غير مسبوق، حيث سُجل نحو 48 ألف مظاهرة مؤيدة لفلسطين فى 137 دولة، مما يؤكد تحولاً جذرياً فى الوعى تجاه جرائم الاحتلال.
وقد تباينت المواقف الأوروبية حول هذه الأحداث، حيث اتخذت إسبانيا بقيادة بيدرو سانشيز موقفاً «جريئاً» بالاعتراف الرسمى بدولة فلسطين وفرض إجراءات عقابية على الاحتلال، بينما تراوحت مواقف دول أخرى (كإيطاليا والمملكة المتحدة) بين إدانة الإرهاب والمطالبة بوقف «تجاوز كل مبادئ التناسب».
وعلى الصعيد الأممي، ندد الأمين العام أنطونيو جوتيريش بـ»كارثة إنسانية تفوق حدود التصور»، كما اتهم تقرير للأمم المتحدة الكيان الصهيونى بارتكاب أفعال ترقى إلى الإبادة الجماعية، بالتزامن مع كشف شهادات صادمة لنشطاء «أسطول الحرية لغزة» عن تعرضهم للاختطاف والمعاملة «كالحيوانات» فى السجون الإسرائيلية.
خارطة التطرف فى العالم:
أعلنت القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) عن تصفية القيادى محمد عبد الوهاب الأحمد من تنظيم القاعدة. فى المقابل، حذّر مرصد الأزهر من أن الخطر الحقيقى يكمن فى الأيديولوجيا المغلوطة والظلم السياسى والاجتماعى الذى يغذِّى التطرف، مشيراً إلى أن الضربات تكشف عن تحول التنظيمات إلى فصائل متنقلة، مما يستدعى تطوير أدوات المواجهة الفكرية والاستخباراتية.
ويتشابك هذا المشهد الأمنى مع الانهيار الكارثى فى دول المنطقة؛ ففى سوريا، تتزامن العمليات العسكرية مع فوضى كارثية وجرائم اختطاف خطيرة تهدد الأطفال بعد سقوط النظام، وهو ما أكده الأزهر كنتيجة لتراكمات اجتماعية معقدة. وفى السودان، تتفاقم الأزمة الإنسانية مع ارتكاب ميليشيا الدعم السريع مجزرة فى مستشفى الفاشر، مما يمثل جريمة حرب و»تجسيداً عملياً لخطاب متطرف»، ويطالب الأزهر بـ ضغط دولى فعًّال ومحاسبة لمرتكبى هذه الجرائم.
وفى أوروبا، تتجه الأنظار إلى سلسلة من المحاكمات التى تكشف عن إستراتيجيات متباينة؛ ففى إسبانيا، بدأت محاكمة ياسين كانجا المتهم بالإرهاب الفردى الذى هز «الجزيرة الخضراء»، عندما قتل المذكور خادم الكنيسة هناك، بينما فى فرنسا، تتواصل إجراءات إسقاط الجنسية عن المدانين بالإرهاب. وفى النمسا، اختارت محكمة نمساوية مسار التأهيل الإلزامى بدلاً من التشدد فى العقوبة بحق إحدى العائدات من داعش، فى خطوة أثارت انقساماً. وفى ألمانيا، كشفت محاكمة عن بقاء الخلايا النائمة لـ «داعش»، فى حين أثير الجدل حول ازدواجية الأحكام بعد تبرئة أعضاء جماعة (AFO) اليمينية المتطرفة رغم خطورة مخططاتهم الإرهابية.
وفى النمسا، كشفت الأرقام عن تحول ديموجرافي، يظهر تراجعاً فى أعداد الكاثوليك مقابل ارتفاع عدد المسلمين إلى نحو 700 ألف شخص بحلول 2021، وهو ما أكد مرصد الأزهر أنه يجعل الإسلام مكوّناً أساسياً فى النسيج الأوروبي، محذراً من استغلال هذه الأرقام فى خطابات الإقصاء.
وفى سياق التعاون الإقليمي، أشاد مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب بالشراكة الناجحة مع المغرب فى بناء القدرات الأفريقية لمكافحة الإرهاب، التى شملت تدريب أكثر من 1000 مسئول من 34 دولة إفريقية. كما شهدت الصومال تعزيزاً لدعمها العسكرى التركى والسويدى فى مواجهة الجماعات المتطرفة.
ويؤكد مرصد الأزهر أن التحدى الحقيقى يكمن فى الانتقال من استئصال الأعراض إلى معالجة الجذور الفكرية والمجتمعية للتطرف، مشدداً على أن النجاح فى بناء مناعة مجتمعية عبر تمكين خطاب الوسطية، ومحاسبة مرتكبى الجرائم، ودعم جهود بناء القدرات الأمنية فى إفريقيا، هو الطريق الوحيد لإنهاء حلقة العنف وتحقيق سلام مستدام.
فى المقابل، شهد مجلس النواب الإسبانى مبادرة تشريعية مهمة، حيث صادقت على مقترح قانون غير ملزم يهدف إلى مواجهة خطابات الكراهية وإدانة التصريحات التى تحرض عليها بدوافع دينية أو عرقية. ورغم أن المقترح قوبل بمعارضة من حزب «فوكس» اليمينى المتطرف، إلا أنه أثار جدلاً حول حدود حرية التعبير، حيث حذر البعض من أن تصنيف الإسلاموفوبيا كجريمة قد يؤدى إلى «تقييد حرية الرأى وتكميم الأفواه»، مشيرين إلى قضية فى مالقة تسعى فيها النيابة لسجن قسّين بسبب انتقادهما للمجتمع المسلم.
ويشدد مرصد الأزهر على أن التباين بين المشهدين الفرنسى والإسبانى يعكس حساسية العلاقة بين الحرية واحترام المقدسات، مؤكداً أن مكافحة الإسلاموفوبيا لا تتعارض مع القيم الديمقراطية، بل تتكامل معها حين تُبنى على مبادئ العدالة والمساواة. ويكمن التحدى الحقيقي، كما يرى المرصد، فى إيجاد «توازن ديمقراطى دقيق» يحمى حرية الفكر والنقد دون السماح بالتحريض، مع ضمان حق الجالية المسلمة فى ممارسة شعائرها بكرامة، لكون العدل والتسامح هما الركيزتان الأساسيتان للسلم الأهلى فى أوروبا.
لقد كشفت أحداث الأسبوع، ومعها اتفاقية شرم الشيخ للسلام، عن ملامح عالمٍ يقف على مفترق طرقٍ حاسم: فإما أن ينتصر فيه صوت العدل والعقل والضمير، وإما أن يظلّ أسير دوائر الانتقام والتطرف والظلم. إنّ ما يجرى فى غزة من مآسٍ، وما يوازيه من فوضى فى سوريا والسودان، وما تواجهه الجاليات المسلمة فى أوروبا من تحديات فى الهوية والانتماء، كلها مؤشرات على أزمةٍ أعمق من كونها سياسية أو أمنية؛ إنها أزمة قيمٍ وعدالةٍ وإنسانية.
ومن هنا نكرر أن أيّ سلامٍ لا يقوم على العدالة هو سلامٌ هشّ، وأن أيّ حربٍ على الإرهاب لا تعالج جذوره الفكرية والاجتماعية ستظلّ حربًا ناقصة، لأن «قتل الأجساد لا يقتل الفكرة». إنّ العالم اليوم بحاجةٍ إلى انتقالٍ نوعيٍّ من منطق القهر والقوة إلى منطق الحوار والاحترام المتبادل، وإلى بناء منظومةٍ إنسانيةٍ عالميةٍ قوامها العدل، والتسامح، والمساواة.
لقد أثبتت الوقائع أن الوعى الشعبى العالمي، الذى عبّر عن نفسه فى أكثر من 48 ألف مظاهرة مؤيدة لفلسطين، يمثل بزوغ فجرٍ جديدٍ فى ضمير الإنسانية، يرفض ازدواجية المعايير، ويطالب بسلامٍ حقيقيٍّ لا يعرف التمييز ولا يبرر الاحتلال. ومع أن الطريق لا يزال طويلاً وشائكاً، فإن الأمل باقٍ ما دام فى هذا العالم من يؤمن بأنّ العدالة ليست ترفاً سياسياً، بل هى ضرورة وجودية لإنهاء دائرة العنف وبناء مستقبلٍ يسوده السلام والكرامة لكل البشر.