تنفس العالم الصعداء، خاصة فى مصر والعالم العربى، بعد توقيع اتفاق غزة على أمل وقف الحرب وإراقة دماء أهلها على مدى عامين، مرت أيامها ولياليها ثقيلة ساخنة على نفوس الشعوب التى تعرف قيمة السلام والأمن والاستقرار.
بالتأكيد، كان دور مصر قوياً حاضراً على مختلف الأصعدة السياسية والشعبية والإنسانية.. ولكن كان الصبر الإستراتيجى لدى القيادة السياسية والإدارة الحكيمة الواعية للموقف هو مفتاح الفرج والانفراجة لهذه الأزمة السياسية الخانقة التى فاجأت العالم بأسره بعد عملية «طوفان الأقصى» غير المحسوبة التى دفع الأطفال الفلسطينيون والنساء والشيوخ أكبر ثمن باهظ لها، رغم كل الأقاويل والشعارات التى صاحبتها، خاصة فى أيامها الأولى التى لم تدم كثيراً بعد انفجار الآلة العسكرية المجنونة فى وجه المنطقة برمتها.
تسببت تداعيات هذه الحرب فى أضرار، بل كوارث خطيرة.. ليس على الفلسطينيين وحدهم، حيث ان هناك أكثر من 200 ألف روح بشرية ما بين شهيد ومصاب ودمار هائل لمقومات الحياة فى غزة التى تحتاج ما لا يقل عن عقدين من الزمان لكى تعود إلى سابق وضعها قبل هذه الحرب الكارثية، ولكن أضراراً أخرى كثيرة بالغة طالت المقاومة الفلسطينية بعمليات الاغتيال لقادة حماس وحزب الله سواء فى الأراضى المحتلة وأيضا فى لبنان وسوريا واليمن وغيرها، علاوة على الخسائر الاقتصادية الهائلة التى نالت من التجارة العالمية فى البحر الأحمر ومن بينها مصر التى خسرت ما يقارب من 10 مليارات دولار نتيجة لتأثر إيرادات قناة السويس بهذه الحرب.
أما الأضرار النفسية التى نالت من الأطفال الفلسطينيين نتيجة لعمليات القتل والتشريد والإعاقة وفقدان التعليم على مدى عامين كاملين، فهؤلاء هم من يمكن أن يُطلق عليهم ضحايا الحروب، الذين سيظلون يعانون نفسياً وبدنياً على مدى السنين القادمة حتى فى ظل استيعاب الأمن والسلام وعدم تكرار مثل هذه الأعمال الشيطانية الإسرائيلية، التى خرجت من نطاق الممارسات الإجرامية التى اعتادوا عليها فى ظل الاحتلال البغيض إلى أفكار ومخططات اليمين الإسرائيلى المتطرف، الذى ينهل من العقائد التوراتية المحرفة والخزعبلات ما يحوّل الفلسطينيين أصحاب الأرض إلى ذبائح وقرابين لأحلام وأوهام فى المسجد الأقصى والقدس الشريف.
>>>
بالتأكيد، لقد كانت الفرحة الغامرة التى ملأت قلوب ونفوس الفلسطينيين أصحاب الأرض وعودة آلاف النازحين إلى ديارهم المهدمة فى الشمال، هى أعظم شهادة لمصر الشقيقة الكبرى، صوت العقل والسلام فى المنطقة.. وهى شهادة لا تنتظرها مصر التى رفعت راية الحق منذ اللحظة الأولى برفض تهجير الفلسطينيين من أرضهم وتصفية القضية الفلسطينية واستمرار جهودها الحثيثة لوقف إطلاق النار، باعتبار أن هذه الخطوة السبيل لتحقيق الأمن والسلام لكل شعوب المنطقة.
مصر التى شاء قدرها أن تتحمل مسئولية صنع السلام من جديد فى المنطقة بتوقيع اتفاق السلام بشرم الشيخ وإنقاذ الأرواح التى كانت مشاريع إزهاق وإبادة فى الأجندة الإسرائيلية الليكودية.. هى نفسها مصر صاحبة مبادرة السلام للرئيس السادات وزيارته للقدس منذ ما يقرب من نصف قرن مخاطباً الأرامل والثكالى الإسرائيليات من الكنيست الإسرائيلى لعلهن يستطعن إقناع الساسة الإسرائيليين أن السلام هدف غال وثمين يستحق كل التضحيات لوقف إراقة الدماء وتعاطى الشعوب مع بعضها البعض.. إن لم يكن هذا ممكناً فى تلك الفترة السابقة التى عاصر الناس فيها مرارة الحروب وتمزق النفوس، فإنه للأجيال القادمة.
ولكن للأسف، لم يعى الساسة الإسرائيليون هذه الحقيقة الساطعة وعرقلوا كل اتفاقات السلام التى وقعت فى أوسلو ومدريد.. وجاء نتنياهو بأفكاره التلمودية الحمقاء ليذيقهم من نفس الكأس التى تجرعوا منها مرارة أحزانهم على الرهائن الذين كان لمصر أيضا فضل عودة بقاياهم أحياء وجثثاً.
لقد شاءت إرادة الله أن يخاطب الرئيس السيسى مرة أخرى الشعب الإسرائيلى قبل توقيع اتفاق السلام وبعده.. فهل يفلحون هذه المرة فى اختيار القادة والساسة الذين يدركون قيمة هذا السلام ويسعون إليه من جديد؟!، لاسيما مع الجهود لم تفتأ مصر بذلها، التى شهد عليها العالم أجمع عبر احتفالية إبرام «اتفاق وقف الحرب» وكخطوة نحو سلام دائم وشامل بالمنطقة.
>>>
تبقى مصر صوت العقل والسلام فى المنطقة.. تتطلع لكل محبى السلام ونبذ الحروب من كل قادة العالم، لكى يسهموا فى تحقيق هذا الهدف النبيل لكل شعوب المنطقة بل العالم أجمع، بغض النظر عن أجناسهم ومعتقداتهم.. الأهم أن يعى الساسة الإسرائيليون هذا الدرس العظيم الذى عادت مصر لتكرره من جديد من أجل حقن الدماء وحفظ الأنفس وإطلاق الأمل لأطفال وأجيال جديدة تريد أن تعيش بعيداً عن أتون الحروب.