وضعت الحرب على غزة أوزارها، ولا مجال لتحديد المنتصر من المهزوم بشفافية، ولا الفائز من الخاسر، فلا يخلو طرف من خسائر كبيرة ولم يخرج جانب ناجيا سليما غير مخدوش بشكل أو بآخر، فلم يعد فى الحروب الحديثة خاصةً منتصر بشكلٍ مطلق ولا مهزوم بشكل كامل.
قدمت غزة شهداء بالآلاف وجرحى بعشرات الآلاف ودماراً تشهد عليه الأطلال وبقايا الديار لا يمكن للكلمات أن تصفه، بل لا يمكن أن تعبر الأقلام البارعة عن المعاناة التى عاشها سكان القطاع على مدى عامين كاملين على مرأى ومسمع من العالم كله، كانت المخططات مرعبة بكل معنى الكلمة تفوق نكبة 1948، تسير نحو أحلام الصهاينة وأوهام عقولهم المريضة، حسابات مبدئية وأرقام غير نهائية تشير إلى أن غزة قدمت ما يقرب من 70 ألف شهيد وأكثر من 200 ألف جريح، وخسر اقتصادها حوالى 68 مليار دولار، ودمار أكثر من 400 ألف منزل و94 ٪ من الأراضى الزراعية، وتحتاج البنية التحتية إلى 80 مليار دولار لإعادة التأهيل،
فى المقابل فقدت إسرائيل سبعة آلاف جندى وخمسة وعشرين ألف مجند معاق و150 مليار دولار خسائر اقتصادية ونفقات، والهجرة الكبيرة من اليهود للخارج، واهتزاز سمعة الكيان الدولية التى أصبحت على المحك.
وخلال العامين الماضيين، لا أحد ولا دولة أرادت أن تدخل فى مواجهة مع جيش الاحتلال الذى يستخدم القوة المفرطة ويقتل الأطفال والنساء عمدا بالمدافع، والتجويع ومنع الدواء والغذاء والماء، سادت لغة الصمت، وتم الاكتفاء بالفرجة دون فعل حتى وصل الأمر إلى عدم التأثر بالدماء التى روت أرض القطاع، وصمت العالم، وعلى عكس مقولة «إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب»، حتى أن كاتب التاريخ ربما يخجل وهو يسجل تلك الأحداث للأجيال القادمة لأنها تفضح ذاك الصمت الدولى المريب الذى لن يغفره التاريخ المنصف عند ذكر تفاصيل المأساة.
وفى نفس الوقت لن يغفل التاريخ ولا يستطيع أن ينسى الدور المصرى تجاه القضية الفلسطينية عامةً والحرب على غزة خاصةً، ولا أبالغ إذا قلت إنها الصفحة الوحيدة المضيئة المشرفة التى تدعو للفخر، فمصر الوحيدة التى وقفت من اللحظة الأولى بشموخ وكبرياء وحسم، وقالت «لا» ورفضت كل محاولات تهجير سكان القطاع وتصفية القضية الفلسطينية، وتصدت لكل المحاولات وأجهضت المخططات، ودون تجميل أو رتوش فإن الشهادات لمصر جاءت من كل حدب وصوب بعد أن استطاعت القيادة الحكيمة والدبلوماسية القوية الراسخة والتحركات الحثيثة أن تحول المسار الخاطئ وتصحح المفاهيم المغلوطة لدى دول العالم حتى حان وقت قطاف الثمار بالتحول الكبير وغير المسبوق فى المواقف العالمية من تزايد الاعتراف بالدولة الفلسطينية ورفض التهجير ووقف الحرب وفرض حل الدولتين نفسه على قمة الإنجازات.
وبعد أن كانت المنطقة على حافة بركان وشفًا جرف هار تكاد تسقط إلى الهاوية، وتعصف بها الرياح العاتية، ولا يقتصر الخطر على الشرق الأوسط وحده، فقد يمتد لمعظم دول العالم وتتطاير شرارته إلى كل أرجاء المعمورة، جاءت لحظة السلام ودقــت ســاعة وقــف طبــول الحـــرب، وصــفها الرئيس عبدالفتاح السيسى بأنها لحظة تاريخية تُجسّد انتصار إرادة السلام على منطق الحرب، من شرم الشيخ، أرض السلام، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب فى غزة، وهذا الاتفاق لا يطوى صفحة حرب فحسب، بل يفتح باب الأمل لشعوب المنطقة فى غدٍ تسوده العدالة والاستقرار.
وأخيرا كان المشهد الذى يؤكد مكانة مصر المرموقة بين الدول، يهز القلوب ويحرك مشاعر الفخر والزهو، عندما اجتمع كل هذا العدد من قادة وزعماء العالم، فى «قمة شرم الشيخ للسلام»، فى تجمع غير مسبوق، لم تشهده حتى معاهدة كامب ديفيد أهم معاهدة سلام عربية إسرائيلية، إنها أرض الكنانة صاحبة التاريخ والجغرافيا والحضارة، فما تحقق لم يأت من فراغ، وسيذكر التاريخ الفارق بين قيمة الصمت والكلام، ويفرق بين الغث والسمين، وما يشهد به أبناء غزة وهم يهتفون باسم مصر ويحملون صور زعيمها.
هل بعد ذلك يبقى للمغرضين والمشككيين ما يفترونه، وهل هناك مجال لمن حاولوا أن ينسبوا لأنفسهم إنجازات وهمية؟.