عندما يشارك في مؤتمر شرم الشيخ للسلام قادة ورؤساء 300 دولة ومنظمة دولية وإقليمية يتقدمهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فهذا رسالة واضحة بأن السلام أصبح بالفعل مطلبًا عالميًا والجميع كان ينتظر تحقيقه، وإنه لم يعد هناك مجال للتأخير أكثر من هذا من أجل الوصول إلى حلم السلام.
ومصر نجحت بحكمة وعقلانية وذكاء إستراتيجي في أن تحقق للعالم هذا المطلب بعد جهد مضن وصبر كبير على الكثير من المعوقات والصعوبات التي وضعت في الطريق العرقلة التحرك المصرى فى اتجاه السلام، لكنها لم تستسلم وأصرت على خوض المسار الشاق حتى النهاية معتمدة على إرادة حقيقية ورغبة في صناعة السلام من أجل إيقاف التصعيد، وكذلك رصيدها الكبير في تجربة السلام مع إسرائيل التي نجحت في أن تكون نموذجا يحتذى به لأنها على ثوابت حاسمة والتزامات واضحة.
وفق هذا المنهج المصرى فإن قمة شرم الشيخ للسلام التي انعقدت أمس بهذا الحضور المكثف والاهتمام العالمى الكبير ليست مجرد مؤتمر للتوقيع على اتفاق وقف الحرب بين حماس وإسرائيل بل هي نقطة فاصلة تؤسس فيها مصر المرحلة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط توقع فيها الحروب والصراعات والإرهاب إلى السلام الحقيقي الذي يبنى الاستقرار والتعاون للشعوب.
والرئيس عبد الفتاح السيسي كان حريصا في مرات كثيرة على تأكيد احتياج الاقليم المضطرب لهذه المرحلة التي طال انتظارها بسبب صراعات وحروب عديدة كان يمكن تجنبها حروب لو ساد صوت العقل وتم اعتماد الحوار وليس القوة والاحترام الكامل من الجميع لقواعد القانون والشرعية الدولية.
وهنا وبعد نجاح المؤتمر في خطوته الأولى التي أكدت نجاح القاهرة في وقف الحرب وتبادل الأسرى والمحتجزين وادخال المساعدات سيكون من الضرورى كما استمع واستجاب العالم لدعوة مصر إلى مؤتمر شرم الشيخ لتنفيذ مبادرة الرئيس ترامب أن يستمع إليها أيضا ويستجيب لدعوتها من أجل استكمال الطريق والوصول إلى حلم السلام الشامل والعادل الذي يتطلب بل يفرض احترام الحقوق المشروعة للدول واحترام السيادة وإقرار حق الدولتين لأنه السبيل الأوحد لهذا الحلم وتحقيق الاستقرار المفقود منذ سنوات في المنطقة.
صحيح أن القمة أوقفت رسميًا وبشهادة دولية المخطط الإسرائيلي القائم على تهجير الفلسطينيين وتوسيع الاستيطان، وفرضت مصر ثوابتها التي تستهدف حماية الحق الفلسطيني وتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط وهي عدم التهجير أو تصفية القضية لكن هناك جزءا لابد أن يكتمل من خلال دعم المجتمع الدولي للتحرك الجاد نحو خلق إطار سياسي يقودنا إلى حل الدولتين كطريق حقيقي ومهم الاستقرار وتثبيت السلام الذي مازال البعض من الراغبين في احراق الإقليم يراهنون على أنه لن يصمد، بينما تسعى مصر والولايات المتحدة الأمريكية إلى ايجاد أجواء ودعائم تضمن استمراره وتأكيده، وكما يقول الرئيس دائما فإحدى أهم هذه الدعائم لبقاء السلام هو الاتفاق على حل الدولتين.
المؤكد أنه خلال الفترة الأخيرة أصبح الاتجاه إلى السلام محل توافق عالمي ومن كافة القوى الدولية التي أدركت تماما أن الحروب لن تحل الأزمات ولن تفرض واقعا، وأنه من الصعب تجاهل إرادة الشعوب مهما بلغت القوة، وإن الغطرسة لا تحمى طرف.
كما أدركت معظم القوى الدولية أنه لم يعد مقبولا الانحياز الكامل لإسرائيل في رؤيتها التي تتجاوز ثوابت و خطوطا حمراء كثيرة دون مبرر فحرب غزة كشفت أمام الجميع أن إسرائيل لا تفكر إلا في تحقيق مصالحها حتى ولو عرضت من يدعمونها لأزمات، ولهذا فقد بدأت دول كثيرة في صناعة مساحة بينها وبين تل أبيب لتصدر قراراتها وتوجهاتها بعيداً عن تأثير اللوبي اليهودي وضغوطه.
الرهان الآن فعليًا وكما عبر الكثير من المحللين والخبراء قائم على مصر التي أثبتت أنها الأكثر دراية بأوضاع المنطقة وفهما التوازناتها وقدرة على صناعة الاستقرار فيها، ولذلك الجميع يبنى امالا عريضة على مواصلة القيادة المصرية تحركاتها الإقليمية والدولية لاستكمال مسار السلام، وكما أشار الرئيس فنحن أمام فرصة تاريخية فريدة قد تكون الأخيرة لشرق أوسط خال من كل ما يهدد استقراره وتقدمه حال من الصراعات ومن الإرهاب والتطرف ومن أسلحة الدمار، وهذا لن يتحقق إلا بالسلام الذي بدأ من شرم الشيخ.
لكن هذا الرهان حتى يتحقق يتطلب الكثير من العوامل التي يجب توفيرها لمصر:
- أولها: الدعم الكامل من الدول والقوى الفاعلة لتساهم في هذا التوجه، فالأجواء الدولية الداعمة للسلام يجب أن تتوفر وبشكل كامل.
- الثاني: أن تتخلى إسرائيل عن الأطماع وتبتعد عن طريق الصراعات وأن تستمع إلى صوت العقل لتبنى علاقات مع دول المنطقة قائمة على التعاون وليس فرض القوة والأطماع، وأن تدرك أن القوة لم تصنع أبدا انتصارا وأمنا بل تخلف خراباً ودمارا وخوفا، وان تعلم القيادة الإسرائيلية أن ما حدث في شرم الشيخ فرصة لا يجب تقويتها أو الانقلاب عليها لأنها ستكون خسارة كبيرة لها قبل غيرها.
- وفي الوقت نفسه ضرورة أن يبدأ الفلسطينيون أنفسهم وقفة مع النفس المراجعة أوضاعهم الداخلية وإصلاح ما فسد في اللحمة الفلسطينية ومناقشة المصالحة الداخلية بشكل جاد تعلو فيه المصلحة الوطنية على مصلحة الفصائل.
- وأخيرًا: أن تستثمر الدول أجواء شرم الشيخ وما شهدته من لقاءات وتفاهمات لتكون هذه الصيغة في الحوار القائم على التفاهم نهجا مستقبليا في إعادة صياغة العلاقات على أسس أكثر وضوحا تلبي المصالح المشتركة للشعوب في التنمية وليس مصلحة صناع الحروب إذا تحققت هذه الدعائم فالمؤكد أننا فعلا على أعتاب مرحلة جديدة ومختلفة في المنطقة تقودها مصر بجدارة لرؤيتها وحكمة قيادتها.