خلال أيام قليلة، شهدت مصر سلسلة من النجاحات المتتالية التى وضعتها مجددًا فى دائرة الضوء العالمى، وأعادت إلى الأذهان صورة الدولة القادرة، الراسخة، التى تتحرك بثقة فى مجالات متعددة من الثقافة إلى الرياضة إلى السياسة. ثلاثة مشاهد مختلفة فى الشكل، لكنها متكاملة فى المضمون، تشكل معًا لوحة تعكس جزءًا من مكانة الدولة المصرية، وحصافة قيادتها السياسية، وقدرتها على إدارة لحظات التحول بكفاءة وهدوء.
>>>
الفوز المصرى بمقعد إدارة منظمة اليونسكو لم يكن مجرد إنجاز دبلوماسى عابر، بل تجديد لشهادة العالم بحضارتنا الممتدة آلاف السنين. فى زمن تتصارع فيه الأمم على الظهور الثقافى والرمزى، استطاعت مصر أن تحجز موقعها فى قلب المنظومة الدولية المعنية بالثقافة والتراث والعلم والتعليم، لتقول للعالم إن القوة الناعمة المصرية لا تزال حاضرة ومؤثرة. ذلك المقعد ليس تكليفًا إداريًا فقط، بل رسالة رمزية بأن العالم يعترف بأن حضارة مصر ليست ماضياً يُدرّس، بل حاضر يُبنى، وأن القاهرة لا تزال قادرة على المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة. إنه نصر ثقافى يؤكد أن المشروع المصرى الشامل لا يقتصر على التنمية المادية فحسب، بل يمتد ليشمل الوجدان والهوية والوعى.
>>>
ثم جاء تأهل المنتخب الوطنى لكرة القدم إلى نهائيات كأس العالم فى أمريكا ليمنح المصريين لحظة فرح جماعى قلّما تتكرر. كرة القدم فى مصر ليست مجرد رياضة؛ إنها مرآة للحالة النفسية للأمة. فى لحظات الانتصار الكروى، تتوحد المشاعر، تختفى الفوارق، وتتعالى الهتافات باسم مصر وحدها. إنها اللحظة التى يتجسد فيها المعنى الحقيقى للوحدة الوطنية بعيدًا عن الخطابات والشعارات. ذلك التأهل لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة تخطيط واهتمام بالمنظومة الرياضية ضمن رؤية تعتبر أن الرياضة إحدى أدوات القوة الناعمة للدولة. وفى زمن تبحث فيه الشعوب عما يوحِّدها، جاء هذا الفوز ليعيد إلى المصريين إحساس الفخر والثقة بالنفس، وليؤكد أن روح التحدى لا تزال حية فى كل بيت وشارع وملعب.
>>>
أما نجاح مفاوضات شرم الشيخ ووقف حرب غزة فقد وضع مصر مجددًا فى موقعها الطبيعى كصانعة للسلام وحارسة للاستقرار الإقليمى. فى وقت عجزت فيه قوى كبرى عن وقف نزيف الدم، استطاعت القاهرة – بهدوئها المعهود – أن تجمع الأطراف، وتعيد لغة العقل إلى الطاولة. إنه انتصار للسياسة المصرية التى تمارس دورها التاريخى بلا ضجيج، لكنها تحقق نتائج تُدهش العالم. هذا النجاح السياسى هو امتداد لرؤية مصرية شاملة ترى أن أمن المنطقة يبدأ من بوابة العدالة، وأن الدور المصرى لا يقوم على المصلحة الضيقة، بل على الإحساس بالمسئولية التاريخية تجاه المنطقة كلها.
>>>
وإذا وضعنا هذه المشاهد الثلاثة بجوار بعضها – الثقافى والرياضى والسياسى – سنكتشف أننا أمام صورة واحدة لدولة تعرف طريقها جيدًا. مصر التى تفوز فى اليونسكو، وتصل إلى كأس العالم، وتقود مسار السلام فى الشرق الأوسط، هى مصر التى استعادت توازنها ومكانتها واحترامها الدولى. هى الدولة التى أدارت تحديات السنوات الماضية بعقل بارد وإرادة حديدية، وها هى اليوم تحصد ثمار الثبات والبصيرة. هذه النجاحات مجتمعة خلقت حالة عامة من الرضا الوطنى وارتفاع الروح المعنوية لدى المصريين. الناس حين ترى وطنها ينجح، تستعيد الثقة فى ذاتها وفى مستقبلها، وتبدأ موجة من الإيجابية المجتمعية التى يجب ألا تُترك للزمن كى تخبو، بل تُدار بعقل علمى منظم.
>>>
السؤال الآن: كيف يمكن استثمار هذه الروح؟ كيف نحوِّل هذا الفائض من التفاؤل إلى قوة دافعة للمشروع الوطنى المصرى؟ الإجابة تبدأ من الاعتراف بأن المزاج العام ليس تفصيلاً ثانويًّا فى معادلة التنمية، بل هو أحد عناصر القوة الوطنية. فكما تُدار الثروات الطبيعية، يجب أن تُدار أيضًا الثروات المعنوية، لأن الأمم لا تنهض فقط بالموارد، بل بالإيمان بذاتها. نحن بحاجة إلى دراسة عاجلة لإدارة حالة المزاج العام المنتشية، ولتحويلها إلى سلوك منتج واستقرار اجتماعى وثقافى وسياسى. إن إدارة مخزون الحضارة المصرية لا تقتصر على المتاحف والمعابد، بل تمتد إلى إدارة الوعى الجمعى واستثمار اللحظات التى يتوحد فيها المصريون حول فكرة أو حلم.
>>>
وهنا تأتى المسئولية الكبرى: كيف نُدخل الجيل الجديد من الشباب فى الوعاء الوطنى نفسه؟ هذا الجيل هو الأكثر اتصالًا بالعالم، والأكثر بحثًا عن المعنى والمشاركة. علينا أن نتيح له الفرصة ليكون شريكًا فى صياغة الحلم، لا مجرد متفرج عليه. الروح المعنوية التى ارتفعت مؤخرًا تحتاج حاضنة فكرية ومؤسسية تُبقيها حيّة، عبر التعليم والإعلام والثقافة والرياضة. نحن أمام لحظة مصرية نادرة يجب أن نحسن إدارتها، لحظة تتقاطع فيها إنجازات الدولة وثقة الشعب واعتراف العالم، وكلها مؤشرات على أن مصر تمضى بثبات فى طريقها نحو المستقبل.