يمكن للأغنية أن تظهر بعد ساعات قليلة وهذا ما حدث عندما اتجه بليغ حمدى إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون وكان مغلقاً بسبب ظروف حرب أكتوبر وتم الاتصال بوزير الإعلام لكى يسمح له بالدخول مع المطربة وردة والشاعر عبدالرحيم منصور، وتحول بعض الموظفين إلى كورس فى الأغانى التى سبقت الجميع وظهرت أغنيات «مع الربابة» و»بسم الله» و»عدينا» ثم توالت الأعمال، وكان أهل السينما والمسرح يترقبون ماذا يمكن لهم أن يسهموا به فى هذا الحدث العظيم، والكتابة تحتاج إلى وقت وتأمل وإعداد، لكن المشاركة ضرورة.. واجتمع أهل الثقافة وخبراء المسرح وكبار الكُتاب يفكرون فى أعمال تظهر لمواكبة هذا الانتصار حتى لو تجاوزت قواعد المسرح المتعارف عليها، وكانت سميحة أيوب فى هذا الوقت مديرة المسرح الحديث وقررت إيقاف عرض مسرحية «تعالب عطيات» وكانت من بطولتها وإخراجها، وعلى الفور بدأت تتصل بالفنان محمد نوح وكانت أغنيته «مدد مدد شدى حيلك يا بلد» هى عنوان المرحلة من بعد النكسة وفترة حرب الاستنزاف، حتى ان القوات المسلحة عندما أقامت معرضاً للغنائم التى حصدها رجال جيشنا البواسل من العدو الصهيونى، وكان «نوح» يقف فوق الدبابات الإسرائيلية ويهتف «مدد» والآلاف حوله تردد خلفه فى مشهد مصرى لا يحدث إلا فى بلادنا فقط، وعلى الفور تم تكليف الشاعر زكى عمر بأن يستثمر أغنية نوح مع بعض أشعار وأغنيات أخرى فى عرض غنائى يخرجه عبدالغفار عودة ويظهر خلال أيام، وهذا ما جرى بالفعل.
فى يوم الافتتاح جاء الناس، كبارهم وصغارهم وشبابهم يشاركون فى العرض ويرددون خلف نوح كلمة بكلمة:
مدد مدد مدد شدى حيلك يا بلد
إن كان فى أرضك مات شهيد
فيه ألف غيره بيتولد
واحمينى من ليل الغربة دارينى وامسحى
بقميصك طينى
أنا ابنك شادد حيلى وفى حبك أقول مواويلى
شيلى طرحة الحزن السودة
والبسى توب الحرية واطلعى بالقامة المفرودة
ع السكة الاخضرانية
يا بلدنا يا أم ولادنا يا زادنا يا زوادنا.
ينتهى العرض والجمهور فى مكانه يعيد تكرار مقاطع من الأغنيات، وقد نسبت المسرحية إلى الشاعر زكى عمر، لكن أغنية «مدد» كتبها إبراهيم رضوان ولحنها نوح، وكانت المسرحية تضم أغنيات أخرى كتبها زكى وعبدالرحمن الأبنودى.
وفى نفس الوقت كان المسرح القومى يعلن حالة الطوارئ لتقديم مسرحية «حدث فى أكتوبر»، التى كتبها اسماعيل العادلى وفيها نرى محمود ياسين وسهير المرشدى وباقى طاقم العمل يظهرون بشخصياتهم الحقيقية، وهم يفكرون أمام الجمهور كيف يسهمون كفنانين فى المعركة، وأخرج المسرحية كرم مطاوع، وشارك فيها شفيق نورالدين وأشرف عبدالغفور وأحمد الناغى ومحمود حجازى ونبيل الدسوقى وأحمد حلاوة ويسرى مصطفى ومصطفى متولى.
قال كبار النقاد بعد سنوات من عرض المسرحية إنها يمكن أن تكون صالحة لكل وقت، فهى تتعرض لفكر الصهاينة فى اغتصاب الأرض وتزوير الحقائق والتاريخ بما يخدم أهدافهم التوسعية، وكيف كانوا بعد حرب الأيام الستة 1967 يفخرون إلى حد الغرور بأن جيشهم لا يقهر، وأن عبور خط بارليف بما فيه من حصانة وبما وضع فى مياه القناة من مواسير النابلم الحارقة التى يمكن أن تلتهم من يفكر فى العبور، حتى إذا دقت الساعة الثانية ظهراً سقطت الأسطورة أمام خراطيم مياه اللواء باقر صاحب الفكرة وعبر جنودنا والطيران فوقهم مظلة ودفاعنا الجوى يصب نيران غضب سنوات الانكسار الست وتلاشت خرافة الجيش الذى لا يقهر.
كل هذا كان محور المسرحية التى لامست بعض المقاطع الشعرية من مسرحيات أخرى «وطنى عكا، الحسين ثائراً»، وفى الخلفية استعان الكاتب العادلى بأسطورة إيزيس وإيزوريس، ومعظم هذه الأعمال كانت من إخراج كرم مطاوع، وبالتالى كان موفقاً فى استخدامها، واستغلال مساحات المسرح الذى ظهر أغلب الوقت خالياً من الديكور، وبالتالى كانت العين كلها على الممثل، ولأنهم فئة خبيرة وفوق كل هذا استثمر طاقة الحماس والحب وزهوة النصر فى تقديم عمل استثنائى كان الجمهور يقابله بكل حفاوة، ومحمود ياسين يردد:
وقضاء الله هو الكلمة
الكلمة لو تعرف حرمة
الكلمة نور
وبعض الكلمات قبور
بعض الكلمات قلاع شامخة
يعتصم بها النبل البشرى
الكلمة فرقان
بين نبى وبغى
بالكلمة تنكشف الغمة
الكلمة نور
ودليل تتبعه الأمة
عيسى ما كان سوى كلمة
أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم
الكلمة زلزلزت الظالم
الكلمة حصن الحرية
إن الكلمة مسئولية
إن الرجل هو الكلمة
شرف الرجل هو الكلمة.
جاءت أشعار المبدع الكبير سيد حجاب لكى تكمل هذه اللوحات المسرحية من وحى النصر، لكى تصبح وثيقة للخروج من بئر الانكسار إلى قمة الانتصار، وما أحوجنا إلى إرادة أكتوبر فى البيت والمدرسة والمصنع والشارع وكل سبل الحياة.
فى اللقاء الأول الذى جمع أعضاء المسرح القومى وهم يعدون لهذا العرض، كان البيان رقم «16» يحلق فى سماء مصر، وقد تحولت إلى شادر كبير اختلطت فيه الزغاريد بدموع الفرح.
كلهم يجتهدون
رغم ضيق الوقت، لكن مسارح مصر المختلفة تسابقت فى مهرجان النصر الكبير.. بعضهم اختار أعمالاً سبق وأن قدمها وهى تتناول القضايا الوطنية، مثل مسرحية «حبيبتى شامينا» للكاتب رشاد رشدى وكانت قد عرضت 1972 أى قبل العبور بسنة وهى تغوص فى أعماق القضية الفلسطينية التى دفعت مصر لأجلها الغالى والنفيس، و»شامينا» الاسم الذى اختاره المؤلف لفلسطين المحتلة، واستثمر بعض المؤلفين وجود الكاتب يوسف السباعى وزيراً للثقافة فى هذا الوقت وقدموا من أعماله «أقوى من الزمن» إخراج نبيل الألفى، و»العمر لحظة» إخراج أحمد عبدالحليم.
قدم المخرج سناء شافع «سقوط خط بارليف» من تأليف الشاعر الفلسطينى هارون هاشم رشيد، بعد أشهر قليلة من أكتوبر، وفى نفس التوقيت قدم شوقى خميس مؤلفاً مع عبدالغفار عودة مسرحية «الحب والحرب»، وكان الكاتب الكبير سعدالدين وهبة حاضراً بمسرحية «راس العش» إخراج سعد أردش، وتدور حول البطولة التى حققها الجيش المصرى بعد أشهر قليلة من نكسة 67، فى واقعة تثبت أن رجال جيشنا لم يدخلوا المعركة، وأن الترتيب والاستعداد للنصر بدأ فعلاً من عام 67، عندما تم تشييد قواعد الصواريخ وإعادة بناء القوات المسلحة وتكاتف الشعب مع الجيش، وسخر كل إمكاناته لأجل المجهود الحربى، وأهل المسرح وضعوا فى خطتهم قبل مسرحيات النصر جمع أكبر مبلغ من المال لصالح البلد، وكلنا يذكر ما فعلته كوكب الشرق الأوسط فى هذا.
للتاريخ نقول إن محمد صبحى كان حاضراً فى مسرحيات أكتوبر بعمل عنوانه «الحرب والسلام» شاركه فى إخراجه محمود رضا فى شكل غنائى استعراضى.
هناك ما هو أكثر من ذلك، يكفى وقد عشنا هذه الأيام أن نقول إن الوطن كله كان يعيش حالة من الحب العظيم، حتى ان أقسام الشرطة اختفت منها محاضر التشاحن والسرقات.
عاشت مصر دائماً قوية ومنتصرة.