فى الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر وبدايات شهر أكتوبر، تستدعى الذاكرة حدثين مهمين أو تاريخين مسطورين بحروف بارزة فى التاريخ المصرى الحديث.. الأول 28 سبتمبر، ذكرى رحيل الزعيم خالد الذكر جمال عبدالناصر، وعندما يذكر «ناصر» فإن شريطاً طويلاً زاخراً بالأحداث الجسام يمر فى التو واللحظة أمام عينيك، وكأنك تشاهد فيلماً سينمائياً يحكى تاريخ الوطن وأهم مراحله والنقلة الكبيرة الفارقة من الملكية إلى الجمهورية، وهى نقلة يظلمها التاريخ ويظلمها المؤرخون، عندما يرصدونها بمجرد تواريخ صماء، والحديث عن ثورة 23 يوليو 1952 وتحويل الملكية إلى جمهورية، فلم تكن ثورة 23 يوليو مجرد تغيير نظام حكم من ملكى إلى جمهورى، وإنما كانت بداية حياة أمة بأكملها، فلم يكن للشعب المصرى وجود على خريطة الحياة الملكية، ولم تكن هناك دولة بالمعنى المفهوم.. أرض وحكومة وشعب وقانون ينظم حياتها، وإنما كان الشعب المطحون فى واد من الشقاء، وحاشية الملك فى واد آخر من الجنة، تنعم بكل خيرات وموارد الوطن وثمرة وعرق وجهد الشعب المطحون.. بينما يعيش القصر حياة البزخ والإسراف، فى وقت لم تكن فيه أى بنية تحتية تقول إن هناك شعباً يجب أن ينعم بالكهرباء والمياه النقية والصرف الصحى والشوارع الممهدة والمدارس والمستشفيات والخدمات، ولم يكن هناك جيش وطنى، ولا شرطة وطنية، ولا مرافق خدمية، بل لم تكن هناك حياة حضرية تنعم بالكهرباء والمياه والصرف والنعيم إلا المناطق التى يعيش فيها الملك وحاشيته، حتى محطة قطار الملك «سراى القبة» كانت غير كل المحطات، عبارة عن قصر صغير مشيد بالإنتريهات الذهبية والسجاد الحرير، كاستراحة صغيرة يستقل منها الملك القطار إذا ما أراد أن يمر على الحدائق والأبعاديات الزراعية، بينما كانت سائر المحطات مجرد أرصفة متهالكة للعامة، فلم تكن هناك حياة ولا خدمات أصلاً للشعب الذى هو وقود كل شيء.. يزرع ويحصد.. يعمل ولا يرى الثمر.. حتى جاءت ثورة 23 يوليو 52، فغيرت وجه الحياة فى مصر، أعادت مصر بخيراتها للمصريين ويخطئ صديقى القارئ من يتصور لحظة أو يصدق أن الاقتصاد المصرى كان أقوى من اقتصاد بريطانيا ذاتها، وأن مصر كانت تصدر وكانت تزرع وكانت غنية وبلا ديون.. قد يكون ذلك وبالأرقام صحيحاً، ولكن لماذا؟، لأن الدولة بمواردها لم تكن للشعب ولا للدولة ذاتها، وإنما كانت بكل مواردها للملك وحاشيته، فلم تكن هناك موازنة لا لجيش ولا لشرطة ولا لتعليم ولا لصحة ولا لمرافق ولا لخدمات، وإنما القصر وفقط.. وكان الشعب معدومى الحياة يعمل بالسخرة ودون أجر ومن يسقط تعباً ومرضاً يدفن مكان قدميه.. حتى جاءت ثورة 23 يوليو، فأعادت الوطن للمواطنين بخيراته، فتعلم الشعب فى مدارسه وتعالج فى مستشفياته، وبدأت الكهرباء تدخل القرى والريف وبدأت المدارس تستقبل طلابها من أبناء الشعب الكادح، وأذكر أن معظم مدارس العباسية الابتدائى والإعدادى كانت قصوراً ملكية، مدرسة الزعفران الابتدائية، والحسينية الإعدادية، والعباسية الإعدادية، كانت قصوراً للحاشية وصارت مدارس شعبية.
>>>
عاش الشعب المصرى حياته فى وطنه وخيرات بلاده، وحققت الثورة المجيدة مبادئها، بإنشاء جيش وطنى قوى ومجانية التعليم، وحقه فى العلاج والرعاية الصحية وحقه فى العمل والحماية الاجتماعية، والمساواة والعدالة الاجتماعية بكل أبعادها الإنسانية.
>>>
رحم الله الزعيم جمال عبدالناصر، الذى رحل جسده عن دنيانا فى الثامن والعشرين من سبتمبر 1970، بينما مازال يعيش فى قلوب الملايين من محبى العدالة والوطنية وكارهى الاستعمار والعبودية.
أما التاريخ الآخر الذى تستدعيه الذاكرة هذه الأيام، فهو يوم خالد مسطور بحروف من البطولة والفداء والتضحية فى تاريخ الأمة المصرية، هو السادس من أكتوبر 1973 يوم النصر العظيم والعبور المجيد، فهو لم يكن مجرد نصر عسكرى تفوق فيه جيش على آخر، أو انتصر فيه جانب وهزم الطرف الثانى.. لا.. لا.. هو أكبر بكثير من مجرد نصر عسكرى، وإنما كان عودة للحياة بكل معانيها، عودة للعزة والكرامة ورفع بكبرياء وعزة للرءوس، حاول العدو أن يجعلها منكسة أو منحنية وروج كثيراً أنه لن يقهر ولن يهزم ولن تستطيع أى قوة أن تدحره وتهزمه، بل بالغ الغرب وذهب بعيداً وأنه لن توجد قوة عربية تستطيع أن تتجاوز خط بارليف، أو حتى تفكر فى حرب إسرائيل.. وفشلت كل المساعى السلمية، حتى الأمريكان ظنا أننا لن نستطيع فعل شيء، بينما كان هناك أبطال يخططون ويعملون فى عزيمة وإصرار لتحقيق النصر واستعادة الأرض.. فقد كان، جاء السادس من أكتوبر ليرسم خريطة جديدة للعزة والكرامة والإرادة والتحدى، ويضع الإرادة المصرية فى المقدمة.